مكتبة فلسطين: إدوارد سعيد.. عن السلام في واقع مغشوش

30 مايو 2021
غلافا الكتابين، تصميم: محيي الدين اللباد (العربي الجديد)
+ الخط -

تقدّم هذه الزاوية كتباً حول فلسطين. كتبٌ ساهمت في شحن الضمير العربي - والعالمي أحياناً - بمفردات القضية وإضاءة الطريق نحو التحرير.
 

في عام 1995، وهو في قمّة أمجاده المعرفية، صدر لإدوارد سعيد عملان متتابعان يشرح فيهما مواقفه من "عملية السلام" التي بدأت مع نهاية "الانتفاضة الأولى" وأفضت إلى معادلات جديدة للقضية الفلسطينية. عملان صدرا في مصر عن "دار المستقبل العربي" حمل الأول عنوان "غزة - أريحا: سلام أميركي" والثاني عنوان "أوسلو 2: سلام بلا أرض"، وهما من ناحية الموضوع والبُنية (سلسلة مقالات تتابع الحدث الفلسطيني) أقرب إلى كتاب واحد في جزأين.

يشير سعيد، في مقدّمة "غزة - أريحا: سلام أميركي"، إلى أنه يتوجّه لأول مرة "للقارئ العربي في المقام الأول" وأن هذا الكتاب هو أول عمل له عن القضية الفلسطينية يظهر بالعربية في إشارة تُبطن عتاباً للثقافة العربية التي كانت تنقل أعماله قياساً على درجة شهرتها الأكاديمية في الغرب، وقد أخلفت بذلك ترجمة مؤلفات خصّصها سعيد لفلسطين، أشهرها كتاب "مسألة فلسطين" الذي صدر في 1992. مرّت ثلاثة عقود والعمل لم يصل إلى العربية إلى يوم الناس هذا! 

يجمع سعيد في كل كتاب اثني عشر مقالاً كان قد نشرها بطلب من جرائد عربية اتصلت به ليبدي رأيه في مسار "السلام العربي - الإسرائيلي" في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي. مقالات يبدو فيها صاحب كتاب "الاستشراق" راديكالياً وحاداً في إعلان استيائه من كيفية إدارة مجريات الصراع من زاوية عربية. 

استاء إدوارد سعيد من انفصال الاتفاقيات عن سنوات التضحية

بشكل واضح فإن الاتفاقيات التي كانت تغمر العالم بمؤشرات السلام والفرح، والتي تزامنت مع مرحلة النشوة الأميركية من حسم الحرب الباردة بتفكيك الاتحاد السوفييتي، كان إدوارد سعيد يعتبرها "محصلة الاستسلام العربي" لا أكثر، كما يشير إلى أن هذا الاستسلام غير ضروري، ومنه يستنتج أن "العرب قد فقدوا على ما يبدو إرادة المقاومة" وأن آمالهم باتت معلقة على عطف الأميركان وحسن نواياهم (ماذا كان سيقول عن موجة التطبيع في 2020؟) وخلال مقالات الكتاب لم يأل سعيد جهداً في وضع هذه الآمال العربية أمام مرآة الحقيقة الصادمة، فالثقة في السياسات الأميركية لم تكن إلا مقدّمة للتنازلات المتتالية ودخول مسار طويل من التفريط في الحقوق، لعلنا - نحن الذين شهدنا ما آلت إليه القضية الفلسطينية في العقود التي تلت "اتفاقيات السلام" تلك - قد عرفنا سلامة توقّعات المفكّر الفلسطيني. 

يرى سعيد أن ما حدث كان انفصالاً بين لحظة الاتفاقيات وسنوات التضحية والكفاح. بعباراته التي تبحث عن أثر عميق في الضمائر، يقول: "ليس مقبولاً أن نلقي بهذه السنوات عرض البحر أو أن نتعامل معها كأنها لم تكن". كما يُسخّف سعيد - من موقعه كباحث عالمي مشهود له بالكفاءة وكمطّلع على الأحداث في العالم من موقعه في منفاه الأميركي - كل مقولات جهاز المفاوضات العربي (الفلسطيني - الأردني - المصري) بأن ما أنجز إنما هو نابع من قراءات واقعية براغماتية، وأنه ينبغي معالجة القضية الفلسطينية بعيداً عن منطلقات السيادة والتحرّر الوطني، وعبر هذه الثغرة بدأ مسار "إهدار المكاسب التي حققتها الانتفاضة"، وفق تعبيره، وهذا الإهدار هو نتيجة كل إصغاء لنصائح من يسمّيهم بـ"استراتيجيي الأمر الواقع".

اعتمد لهجة ساخرة قوامها الصورة الذهنية ــ الكاركاتيرية

في مثل هذه السياقات، يعرّج سعيد على تعدّد مستويات "معضلة اتفاقيات السلام"، فهي من جهة عبارة عن تبنّ أعمى لمنظور أميركي (إسرائيلي من وراء ذلك) يحدّد مواصفات الواقع، ويقصي الكثير من الأوراق من طاولة المفاوضات بسبب مرجعيته في تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. يُظهر سعيد عناية خاصة بمسألة "تزييف الواقع" واستعمالات "الواقع المغشوش" لتمرير أجندات الاحتلال، حتى أنه كتب في مقدّمة الكتاب: "لا أظنّني كنتُ مستطيعاً الكتابة لولا إحساس عميق بأهمية أن يظلّ المرء قابضاً على الحقيقة، وألا يترك الساحة خالية أمام لغة النفاق والرياء وخداع الذات"، وهو بذلك يلفتنا إلى شكل من أشكال المقاومة الصالحة لكل زمان.

على صعيد آخر، ينتقد سعيد فساد علاقة الوكالة التي تربط الشعوب العربية بقياداتها. يقول: "لا ينبغي أن نسمح لحفنة من قادتنا أن يقرروا الالتفاف حول الماضي والإذعان لهذا الواقع المزعوم. إن صياغة هذا الواقع ومناقشته هي مهمة كل من يعنيه الأمر من المواطنين والمثقفين وأنصار القضية". لقد كان سعيد يشعر بأن دوّامة الاتفاقيات قد أنتجت حالة من الانفضاض من حول القضية تمثّل سبباً جديداً من أسباب الهزيمة وإعادة إنتاجها.

اعتمد إدوارد سعيد لهجة ساخرة قوامها الصورة الذهنية ــ الكاركاتيرية. فعل ذلك كلما أراد تمرير تصوّراته حول التعامل العربي مع القضية، فيشير مثلاً إلى أن حكّام "إسرائيل" باتوا هم من يقودون الحكام العرب "واحداً تلو الآخر إلى واشنطن للركوع والاعتذار"، أو حين يقول: "كان الله في عون العديد من الحكّام العرب فقد اشتروا - من خلال التودّد لإسرائيل والولايات المتحدة - مُهلة زمنية غير طويلة فيما سيجدون أنفسهم قريباً جداً مضطرّين لمواجهة المشاكل الاجتماعية والمعنوية الحادة التي أرجأوا التعامل معها وتجاهلوا وجودها زمناً طويلاً"، لكأنه يتحدّث عن نظام مبارك - وغيره من الأنظمة العربية - ومآلاته في 2011.

هذه اللهجة الساخرة التي تخترق مقالات الكتابين لا تخفي نبرة أكثر ظهوراً؛ إنها مرارة مشاهدة التقدّم في مسارات خاطئة، وأكثر من ذلك أن تشاهد ما يحدث وقد جرى إخراجه في شكل حفلات بهيجة. تلك الحفلات هي ذاتها التي شوّهت "القضية" لعقود، وأفقدتها الكثير من عمقها النضالي. لكن ها هي فلسطين تثبت - هذه الأيام خصوصاً - أن ما هو عميق وحقيقيّ يمكنه أن ينتفض على قوالب الرياء والاستسلام. وكما يقول إدوارد سعيد في "غزة - أريحا: سلام أميركي": "علينا قبل كل شيء أن نعيد لفكرة فلسطين رونقها". تبدو اليوم فلسطين وقد استعادت رَونقها. الأمل ألا يكون ذلك لبضعة أيام.

المساهمون