ماضياً، كان لسوق النشر حُجّاب يقفون على أعتابه، وجواز المرور الوحيد لديهم هو الجِدّة والأصالة. كان هناك، مثلاً، عبد الفتّاح الجمل، مُشرِفاً على الصفحة الأدبية في جريدة "المساء". وكان علاء الديب يكتب عموده الشهير "عصير الكتب"، مُنوّهاً فيه بالجديد الجاد. وكان محمد مستجاب حارِساً على "بوّابة جبر الخاطر" (عموده الصحافي)، لا يفتحها إلّا للأصيل، مهما كان صاحب الصوت مغموراً أو منسيّاً.
الآن، وقد أصبح لكلِّ مواطنٍ عالَميٍّ صفحاته الرقمية، يكتب فيها ما يشاء، ولم يعُد للأبواب حفّاظ للقيمة؛ حيث للأمر مساوئ قد تفوق حسناته، أضحى النشر عمليةً تُغيَّم فيها الفروقاتُ بين الكتابة كمقابل للأميّة والكتابة كفنٍّ. لدرجة تجعل بعض من يكتبون جملة فعلية أو اسمية بصعوبة يحسنون الظنّ بذواتهم، فيحسبونها من أرباب الأقلام.
وإذا كان من الحقّ لأيّ أحدٍ أن يظنّ بنفسه ما شاء، فمن الحقّ أيضاً أن تُمارس المؤسّسات الثقافية المرموقة دورها في نشر الثقافة العالية، خصوصاً أنّنا عصر السماوات المفتوحة أبوابها على مصراعيها لكلّ من هبّ ودبّ. وأقول مسارعاً - حتى لا يعزف البعض ألحاناً ركيكة – إنَّ هذا لا يعني استبعاد الثقافة الشعبية، طالما توافرت فيها جماليّاتها الأصيلة، المُعبّرة عن روح الشعب ومكنوناته.
مناسبة هذا الكلام الحفل الشعري الذي أعلنت عنه "مكتبة الإسكندرية" لـ "شاعرة" من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، تكتب بالعامية المصرية؛ إذ تفتح المكتبةُ أبواب قاعتها الكبرى في "مركز المؤتمرات"، غداً، لاستقبال "الشاعرة" وجمهورها، وتتراوح قيمة تذكرة الحفل بين 150 و200 جنيه مصري، أي ما يعادله 5 إلى 7 دولارات أميركية تقريباً.
من واجب المؤسّسات الثقافية ممارسة دورها في نشر الثقافة العالية
المثير أنَّ جماهير وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يبدو أنَّ المكتبة تُعوّل عليها وعلى انتشار فيديوهات الفتاة بينها بغرض تحقيق إيراد مادي كبير من الحفل، هاجمت بشدّة سلوك المكتبة على صفحتها الرسمية المخصّصة لترويج الحفل. صحيحٌ أنّ الرفض قد يكون له أسبابٌ عديدة ومختلفة التوجّه، إلّا أنّ الجامع بينها هو النظر باستهجان لاعتبار كلام مثل التالي: "تعبت/ فقمت كلّمته/ ما أنا بنته" شعراً، ناهيك عن أن تنفتح له أبواب المؤسّسة الثقافية الأعرق في البلاد، والموصَدة بشدّة أمام مثقّفين من أبناء الإسكندرية وخارجها، لمجرَّد اختلافهم مع المسلك الثقافي الذي تنتهجه المكتبة.
مع ذلك، لن نتفاءل بالرفض الجماهيري لنسأل المكتبة أن تفتح ولو أصغر قاعاتها لحفلات شعراء قصيدة النثر مثلاً، فالوعي الأدبي لعموم الجماهير ربّما ما زال واقفاً على أعتاب قصائد المتنبّي وشوقي ونزار قباني. لكن إن كان غرض القائمين على المكتبة هو استغلال الانتشار الجماهيري لتحقيق مكسب مادي، فلدينا من الأسماء الشابة في شعر العاميّة المصرية من يحوزون ذات الشهرة والانتشار، إن لم يكن أكثر، فضلاً عن أنّهم يكتبون شعراً حقيقياً له أظافره الجمالية التي تخدش الروح والفؤاد.
وهذان اسمان نرفعهما بمحبّة لحرّاس الأبواب في "مكتبة الإسكندرية": مصطفى إبراهيم وأحمد الطحان. وأنا أزعم أن حفلاً لهما سيحقّق للمكتبة دخلاً لا بأس به، كما سيحفظ للثقافة ولتاريخ المكتبة القديمة ماء وجههما المُراق حالياً بأبخس الأثمان.