مفكرة المترجم: مع محمد محجوب

14 مارس 2022
محمد محجوب
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "لم يحدث أن ندمتُ على ترجمة. ربما ندمت، بالعكس، على تأخري في ترجمة كتابين لهايدغر وأرسطو" يقول المترجم التونسي في حديثه إلى "العربي الجديد".


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- اهتممتُ بالترجمة من يوم وجدتُني بحاجة إلى فتح آفاق تلاميذي في قسم بكالوريا الفلسفة على نصوص متنوّعة غير النصوص المحدودة والفقيرة التي أوردتها الكتب المدرسية الرسمية. وأذكر أننا بدأنا، أنا وجمع من الزملاء، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، في بيتي، بترجمة تصدير الطبعة الثانية من "نقد العقل الخالص" (من الفرنسية في ترجمة ترمساغ وباكو) إلى العربية، ثم انقطعَت تلك اللقاءات وواصلتُ وحدي حتى استكملت الترجمة واعتمدتها كأثر تجري دراسته بشكل مسترسل في القسم خلال السنة الدراسية. ثم تجدّدت تجربة البدايات مع ترجمةٍ بالاشتراك لكتاب "الدال من ميتافيزيقا أرسطو" نشره "المعهد القومي لعلوم التربية" وترجمتُ بعد "محاولة في أصل اللغات" لـ جان جاك روسو سنة 1984؛ وهي ترجمة نُشرت بعد طبعتها الأُولى تلك خمس مرات.


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر ما ترجمتُ هو كتاب "تأويليات الحَدَثية" لـ هايدغر سنة 2019. وأعكف حالياً على استكمال عدد من الترجمات، هي كلُّها متقدّمة بدرجات متفاوتة، وبعضها شارف على الانتهاء: "مقالات ومحاضرات حول التحليل النفسي" و"مقالات ومحاضرات حول الأنثروبولوجيا" لـ بول ريكور، و"ضلالات" لـ الصديق الجدي، و"الأنطولوجيا والزمانية: محاولة تأويل شامل لكتاب الوجود والزمان لهايدغر" لـ جان غرايش، و"الحقيقة حول الكرّاسات السوداء" لـ ف. ف. فون هرمان بالاشتراك مع ف. ألفييري، إضافةً إلى "الميتافيزيقا" لأرسطو من الأصل اليوناني، و"الوجود والزمان" لـ هايدغر.


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟ 
- عقبات عديدة أهمّها: عدم وجود قانون أساسي للمترجمين الأدبيّين. وقد كنتُ شرعت في إعداد هذا النص مستعيناً بالتجارب الأوروبية، لكنّ الأمور انقطعت بعد مغادرتي إدارة "مركز الترجمة" في تونس. أيضاً، هناك تفاوُت بين الناشرين في تقييم المقابل المادّي لترجمة الصفحات، وارتباطه بمعايير ظرفية وحتى شخصية، كما لا تتوفّر دورات تكوين في الترجمة الأدبية المتخصّصة في الوطن العربي، وهذا أمر يحتاج رؤيةً واستشرافاً. كما أنّه لا يوجد سجلّ مركزي يمكن الاطلاع عليه لمعرفة ما تُرجم وما هو بصدد الترجمة تفادياً للتكرار الذي وقعنا فيه مرّات كثيرة. أضف إلى ذلك عدم خضوع الناشرين إلى بروتوكول ترجمة صارم ينصّ على مراحل الترجمة وعلى تلاحق المراقبة الدقيقة لكلّ مرحلة. ولهذا الغياب تأثير كبير على جودة الترجمات وصدقية اعتمادها في البحوث والدراسات والجامعات. كما لا مخطّط استشرافياً للعناوين التي تستحق الترجمة سنوياً على المستوى العربي.


■ هناك قول بأنّ المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- إلى حدّ اليوم، كان ثمّة دائماً محرّر ورائي. لكنّي أعرف أنّ هذه القاعدة غير محترمة دائماً، فضلاً عن عدم أهلية كثير من الناشرين لصناعة النشر وجهلهم شبه التام بمهنتهم. كم ناشراً له ميثاق تحريري أو ميثاق تيبوغرافي؟ تجد في دار النشر الواحدة عشرين خطاً وعشرين أسلوباً في الطباعة. أستطيع أن أُظهر لك صفحات لنفس الناشر تدعو إلى الاستغراب. وهذا راجع إلى عدم وجود "مركز وطني للكتاب" يوحّد الطرق ويصادق على المواثيق التحريرية ويراقب الجودة ويدعم المؤسّسات التي تستحق فعلاً. ناشرونا ليس لهم مديرو نشر متكوّنون وحاصلون على شهادات في هذا التخصّص. وباستثناء بعض دور النشر العربية التي تجتهد، أو التي لها تقاليد قديمة، فإنّ البقية - وبكلّ صراحة - لا تستحق لقب الناشر.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، لا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- لا أترجم إلّا ما يندرج في إطار مشروعي الفلسفي. في العادة، أنا الذي أقترح على الناشر ما أترجمه. ولم يحدث عكس هذا أبداً. على أنّ الناشر يمكنه أن يستشيرني في مدى وجاهة ترجمة ما، ويدور بيننا نقاش حول ذلك.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- هذا لا يحصل أبداً، فالفكر الفلسفي أكثر وجاهةً من أي مشروع سياسي.


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- علاقة معرفة دقيقة وعميقة. بعض الكتب التي ترجمتها عاشرتُها لعقود قبل أن أنشرها. كتاب "تأويليات الحدثية"، مثلاً، تواصَل اشتغالي عليه عشرين سنة. أمّا "تحقيق في الذهن البشري" لـ ديفيد هيوم، فقد كنتُ مهتمّاً بترجمته منذ 1970 وصدرت الترجمة في 2010.


■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحبَ إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته. كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟ 
- هي كالعلاقة بين اللسانَين اللذين أُترجم بينهما: أنتقل من هذا إلى ذلك دون أن أشعر بأيّة هزّة أو قطيعة. الكاتب مأوى المترجم، وسكنه اليومي ومرجع اختياراته. أنا لا أُترجم كمحترف ترجمة، بل أترجم كمتفلسف. والسؤال الذي أطرحه على نفسي عند مراجعة ترجماتي ليس "هل هذه الترجمة مفهومة للقارئ أم لا؟" وإنما هو: "هل هذه الترجمة مقروءة للفلسفة، مقروءة من الذين سبقونا فيها ومن الذين يعاصروننا؟ هل تعطي المعنى في الفلسفة؟". أمّا القارئ فعليه أن يبذل جهداً لكي يفهم. لا يمكن أن يفهم هايدغر من لا يعرفه لمجرّد كوننا وضعناه في العربية. هو صعب في لغته وليس من البديهي أن يصبح سهلاً لمجرّد كونه أصبح ينطق في لغتنا. 


■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟ 
- أولاً، أشكر المؤسّسات والجهات القائمة عليها، فهي تواصل تقليداً عزيزاً علينا نحن العرب. وكثير من هذه الجوائز مُجزٍ ولا يستهان به. لكنها، كما تقول، قابلة لأن تتزايد وتتنوّع. شخصياً أحدثتُ جائزتين للترجمة: "الجائزة الوطنية للترجمة" (ولي معها حكايات سأرويها يوما ماً) و"جائزة معرض تونس الدولي للكتاب" في الترجمة. نعم، أنا الذي أحدثتُ هذه الجوائز. ربما يتذكّرونني بعد أن ألتحق بالرفيق الأعلى.


■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟ 
- أرجو أن نُخصّص لهذا السؤال حديثاً مطوّلاً، فالذي في النفس منه بدل الكرب كَرْبان، وبخاصة مع ما بتنا نرى في خصوصه من إهدار للزمان وجهل بالرهان.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معيّنة في الترجمة؟ 
- هذا سؤال يطول الحديث فيه. سأقتصر على قاعدة واحدة: "ترجم بحيث تصنع عالماً من ترجمتك". ما معنى العالم؟ إنه يعني ضرباً من التناسق الداخلي الذي فيه سماوات وأرضون، وفيه جهات ووجهات، وتقيم فيه كائنات يكون آهلاً بها. هذا العالم تُحيل فيها الكلمات على بعضها البعض وتحوز معانيها من تلك الإحالات. تماماً كما لا نستطيع أن نفهم النص إلّا داخل عالمه، لا نستطيع أن نترجم النص إلّا ببناء عالم له. ولعلّ أهمّ صفة لهذا العالم الذي ننشئ هي أن يكون متناسقاً. 


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟ 
- لم يحدث هذا أبداً. ربما ندمت، بالعكس، على تأخُّري في ترجمة كتابين: "الوجود والزمان" لـ هايدغر، وميتافيزيقا أرسطو. على أن التأخُّر لا يكون تأخّراً إلّا إذا لم نحكم الاستفادة منه. لذلك أتدارك اليوم أمري وأعمل على ترجمتهما، وأرجو ألّا يحرمني القدر من إنهائهما.


■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- أرجو للترجمة أن تصبح عملاً علمياً يُعترف به في رسائل الدكتوراه، وأن يقع العدول عن بعض الأطروحات التي لا تضيف شيئاً بأعمال ترجمة جليلة تفيد أصحابها وتفيد الناس. أمّا حلمي، فهو أن تنال المدرسة التونسية في الترجمة، هذه المدرسة التي أنفقَت عليها الجامعة من أجل تخريج علماء متعدّدي الألسنة، منزلتها التي هي جديرة بها: أن تصبح قاطرة التحديث الفكري وقاطرة التنوير وقاطرة حضور الفكر العربي على الساحة العالمية بكلّ جدارة.


بطاقة
مفكّر ومترجم تونسي من مواليد 1953. يشتغل على نقل النصوص الفلسفية من الفرنسية والإنكليزية والألمانية واليونانية القديمة. من ترجماته: "تحقيق في الذهن البشري" لـ ديفيد هيوم، و"تأويليات الحَدَثية" لـ مارتن هايدغر، و"تقريظ الحكمة" لـ موريس ميرلوبونتي، و"محاولة في أصل اللغات" لـ روسو. ومن مؤلّفاته: "هايدغر ومشكل الميتافيزيقا"، و"المدينة والخيال: دراسات فارابية"، و"في استشكال اليوم الفلسفي".

الأرشيف
التحديثات الحية
المساهمون