مع فلسطين.. أن نروي ذاكرة القدس لنضيء الحقيقة

19 مايو 2021
من صلاة في القدس خلال شهر رمضان المنقضي (Getty)
+ الخط -

مع فلسطين.. مساحة تخصّصها "العربي الجديد" لكتّاب ومبدعين عرب ليتحدّثوا عن يومياتهم وهم يتابعون العدوان الصهيوني الجديد على الشعب الفلسطيني. "قراءتي للقضية تتّجه أكثر نحو أطروحة مفادها أنّ ما أُخذ قوّةً وغصباً لا يُنتزَعُ إلا قوّة وردعاً"، تقول الكاتبة المغربية.


جرت العادة خلال شهر رمضان، حين تُلزمني جلسة الإفطار بمشاهدة التلفزيون، أن أنتقي قنواتٍ جادّة. في بقيّة أيّام العام، لا أضيّع وقتي أمام شاشات المحطّات الفضائية. ومنذ قاطعتُ القنوات المحلّيّة التي تزداد تفاهتها في رمضان، صرتُ أتابع القنوات التي تبثّ صلاة العشاء والتراويح من المسجد الأقصى، فتملأني أجواؤه بروحانيّة الشهر الفضيل. لم أكن أدري أنّ ذلك سيجعلني شاهدةً على الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيون.

منذ الأيّام الأولى، تابعتُ الاستفزازات الصهيونية للمصلّين، وحرمان شباب القدس المسلمين من باب العامود. توقّعتُ التصعيد، لأنّ الكيان الصهيوني دأب على ترويع مسلمي الأقصى خلال طقوسهم التعبّدية الرمضانية. ومن ثمّ بدأتُ ملاحقة تطوّرات الوضع، بين منبر وآخر، بما يقتضيه ذلك من حذر من وجهات النظر المتضاربة، والبحث ما أمكن عن معطيات واقعية وموضوعية.

المتابعة اليومية تجعلني أعود إلى جذور القضية. الفلسطينيون وجهاً لوجه مع عدوّ واضح وأعداء مقنَّعين. لو كان الكيان الصهيوني هو العدوّ الوحيد لأرض فلسطين، لحصل استئصاله منذ 1948؛ لكنّ الخيانات العربية جرَّأت الدول الغربية بزعامة أميركا على العبث بحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه وتاريخه ومستقبله، وهي التي تداوم على سحب البساط من تحت أقدام المرابطين والمؤمنين بحقّ العودة. ولعلّ مسلسل التطبيع الممتد من المحيط إلى الخليج قد خرج بالخيانات العربية من منطقة الظلّ إلى الضوء، لكنْ بعتمةٍ حالكة على مستقبل أرضٍ وشعب. وحالياً تتبدّى الأنظمة العربية منفصمةً في خطابها وموقفها كما لم يحصل من قبل.

مسلسل السلام لم يحقق إلّا مزيداً من المكتسبات للصهاينة

أعتقد دائماً بأنّ مقاومة المثقّف جبهة مهمّة للتوعية بتطوّر القضية، لكنّ أثرها ضئيل جداً مقارنة بأثر الصواريخ والقنابل والرصاص الحيّ... وأعتقد أنّ أثر المقاومة الثقافية أقلّ حظّاً من السابق، لأنّ الأجيال الحالية، في العالم العربي، مصوغة بنظام التفاهة، وفي أحسن الحالات، يمكن أن تتقاسم هاشتاغ "#غزة_تحت_القصف" وتوهم نفسها بأنّها حققت بطولة ونصراً! أتساءل: أين نحن من البطولات العربية الميدانية في سيناء والجولان منذ عقود؟

قراءتي لتاريخ القضيّة تتّجه أكثر نحو أطروحة مفادها أنّ ما أُخذ قوّةً وغصباً لا يُنتزَعُ إلا قوّةً وردعاً كذلك، بدليل أنّ مسلسل السلام لم يحقق إلّا مزيداً من المكتسبات للكيان الصهيوني، مقابل تحويل الشعب الفلسطيني ــ وتدريجياً باقي شعوب المنطقة (نموذج الشعبين العراقي والسوري) ــ إلى شتاتٍ مذرُوٍّ على بقاع المعمورة.

سبق أن كتبت دراسة حول مسرحية "سأموت في المنفى" لغنّام صابر غنّام، وكانت قراءة تفاعلية بقدر ما هي عِلمية، لأن فلسطين جزءٌ من وعيي التاريخي بصراع الإنسان ضد الظلم. هي مسرحية تختزل يأس الفلسطيني من العودة إلى أرضه بعد عقود من التهجير والمنفى؛ وهي أيضاً إدانة لكلّ مَن ساهم في هذا الوضع الكارثي لأرضٍ وشعب.

أذكر أيضاً إدوارد سعيد وهو يحضّ أبناء هذه الأرض على سرد مرويّاتهم، ليسجّلوها، لينشروها ويُوثِّقوا للأجيال المقبلة. ليسردوا ما حصل للمرأة الفلسطينية، وللطفل الفلسطيني، وللشباب الفلسطيني، وللأسرى، والكهول، والشيوخ، وذوي الاحتياجات الخاصّة، والأيتام، والمرضى... ما تعرّضوا له من عنف جسدي ورمزي يرتقي إلى جرائم حرب. السرد ذاكرة، والذاكرة رحِم المواقف. ينبغي لهؤلاء، ولكلّ مَن يشهد مجازر الكيان الصهيوني، أن ينبري للكتابة، وأن يتفوّق بقول الحقيقة على سرديات جوزيف كونراد الذي خدم الإمبريالية والتوسّع الغربي الغاشم في بلاد السود والحمر والصفر.

لكنّي، رغم ذلك، أشعر بأنّني يائسة وغاضبة. عُذراً أيها الأقصى المبارك، لا آمل شيئاً وخنجر ذوي الأرومة يزداد انغرازاً في خاصرة الأمة. آمل شيئاً واحداً فحسب، ألّا يورّط أصحاب الأرض المباركة نضالهم في إيديولوجيات القياصرة، والأباطرة، والسماسرة؛ ألَّا يصدِّق الشعب الفلسطيني كلّ هذه الأنظمة الدموية الانتهازية، وقد حوّلت أرضه إلى مسطحة لتصفية حسابات معقّدة مع خصومها، شرقاً وغرباً؛ ألّا يَدخل بطن الحوت الأزرق طواعية معتقداً أنّ لُهاتَه قبّةُ الأقصى، وأنيابَه نواقيسُ بيت لحم.


بطاقة 
باحثة ومترجمة وكاتبة مسرحية مغربية من مواليد عام 1961، تشتغل ضمن حقول الأنثروبولوجيا والمسرح والتعليم. من إصداراتها البحثية: "الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية" (2009)، و"الإيروس والمقدّس: دراسة أنثروبولوجية تحليلية" (2010)، و"مدوّنة القنص بالصقر: دراسة أنثروبولوجية مقارنة" (2013). كما أصدرت مجموعةً قصصية بعنوان "الخيّالة والمسيخ" (2010)، وكتبت مسرحيّتين: "أهازيج إبراهيم الحموي"، و"قناديل البرّ المطفأة". ترجمت إلى العربية "معجم بورديو" وتُصدر قريباً ترجمتها لـ"معجم يونغ".

موقف
التحديثات الحية
المساهمون