مع غزّة: هبة شريف

26 ديسمبر 2023

--

+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وتبيّن كيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "ما نكتبه الآن لا يصل أبداً إلى مستوى ما يحدث"، تقول الباحثة والمترجمة المصرية في حديثها إلى "العربي الجديد".



■ ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- يشغلني الشعور بأننا لا نعرف سوى 10 بالمئة ممّا يدور، وهذا مخيف، فالواقع غير قابل للتحليل وغير خاضع للتنبُّؤات، والجهل عجز لأننا لا نستطيع التوقع أو التنبؤ بما يحدث أو سيحدث بالفعل. وأرى أن ما يدور ليست له علاقة بما يقوله المحلّلون السياسيون في تحليلاتهم أو تنبؤاتهم أو توقعاتهم. ما يكتبه هؤلاء يضلّلنا أكثر مما يساعدنا. 


■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- أصابتني هذه الحرب بالعجز بسبب عدم المعرفة وعدم القدرة على الاستيعاب أيضًا. استيعاب أن يكون العالم شريرًا إلى درجة السماح بهذه الوحشية غير المسبوقة تجاه أطفال ونساء وشيوخ، وحيوانات أيضًا. شعور العجز سيطر عليّ، فأصبحت أعجز حتى عن القراءة والكتابة إلا تحت ضغط شديد، ومن أجل مواعيد التسليم فقط لا غير. جعلني العدوان أرى عبث ما نكتبه الآن، فهو لا يصل أبدًا إلى مستوى ما يحدث، وأي تحليلات أو توقعات تضر أكثر مما تفيد لأنها تستخدم نفس العبارات المستهلكة والآراء المكررة، في حين أن ما يحدث غير مسبوق. 

لا أجرؤ على قول أي شيء لهم، أنتظر كلّ يوم ما يقولونه لنا

■ إلى أي درجة تشعرين أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- لا أعتقد أن أي شيء قادر أو فعّال في مواجهة حرب الإبادة الآن وفي هذا التوقيت، لا أعتقد أن أي عمل إبداعي بوسعه مواجهة أي شيء في هذه اللحظة. الشيء الوحيد الممكن هو استرجاع هذه اللحظات في غزة في وقت لاحق بعد أن ينتهي كل هذا، ثم إعادة حكيها من وجهة نظر لم تنقلها الصحف أو وسائل الإعلام أو أهملتها؛ أعني لحظات خاصة بالأفراد ومشاعرهم التي لم ينقلها الإعلام. لكن لن يحدث ذلك في هذه اللحظة الآنية، ولاحقًا عندما تصرف وسائل الإعلام نظرها واهتمامها عن الحرب والناس هناك، يأتي دور الإبداع في أن يحكي لمقاومة النسيان، فالنسيان يعني الاندثار، النسيان يجعل الأحداث تبهت ثم تختفي تمامًا، والحكي يعيدها للذاكرة من جديد. التذكر في حد ذاته مقاومة.


■ لو قيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختارين المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- لو استطعت إعادة رسم حياتي، لاخترت التخصص في مجال التاريخ، فأنا أرى أن التوثيق والتدوين والتسجيل من دون أي تحليلات سياسية أو شعارات رنانة هو أفضل ما يمكن أن نفعله في عالم غير مفهوم. فأنا أؤمن، كما ذكرت من قبل، أننا لا نعرف سوى القليل جدًا مما يجري. وبالتالي تصبح كل التحليلات السياسية مستهلكة، والتوقعات والشعارات الوطنية الرنانة فاقدة للتأثير من كثرة ما كررت. التدوين والتسجيل والتوثيق مفيدة دائمًا، لأنها تمثل المخزون الذي يعتمد عليه المستقبل للفهم وللتصرف وفقًا لهذا الفهم. والتوثيق والتذكر لا يخصان فقط الأحداث الكبرى والبطولة والصمود، على العكس، فأنا أرى أن ما لم تذكره وسائل الإعلام هو الأهم: أعني لحظات الحياة اليومية: ماذا يطبخ الناس، ماذا يلبسون، كيف يحتفلون وكيف يحزنون، أي حكايات يحكونها لأطفالهم، مشاعر الضعف واليأس والأمل والفرح وسط كل هذا أيضًا.
 

■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟

- أنا لم أعد أنتظر تغييرًا، أنا أتمنّى فقط أن أفهم بعض ما يحدث في العالم.


■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودين لقاءها، وماذا ستقولين لها؟

- أود لو كنت قابلت الأديب الروسي الحاصل على جائزة نوبل ألكسندر سولجينيتسين، وكنت سأسأله كيف تجاوز بشاعة الأحداث العظام التي مرّت بحياته: الحرب الأهلية الروسية، الحرب العالمية الثانية، ثم اعتقاله تسع سنوات بسبب انتقاده النظام، أنا بالفعل أود لو أعرف كيف احتفظ، مع أنه اختبر بنفسه بشاعة العالم والنظام السوفييتي، بمثابرته على الكتابة حتى طرد من روسيا. كيف لم يفقد إيمانه بكتابة الأدب رغم كل ذلك. كيف وجد القدرة على إبقاء الرغبة في السرد.


■ كلمة تقولينها للناس في غزّة؟

- لا أجرؤ على قول أي شيء لهم، أنا أنتظر كل يوم ما يقولونه هم لنا.


■ كلمة تقولينها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- لا أعرف ماذا يمكن أن أقول للإنسان الأسير، العرب جميعهم أسرى في أوطانهم، وفي غير أوطانهم أيضًا كما رأينا من تعامل بعض الدول الغربية مع العرب المناصرين لغزة.


■ حين سئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقولين لدارين ولأطفال فلسطين؟

- سأعتذر لها لأني لا أستطيع شرح كل هذا الشر في العالم، ولا أقدر على أن أشرح لها أن الشر مخلوق مع العالم، وأنه جزء أصيل منه، وأن قدر البشر مواجهته، سأعتذر لها لأني لا أستطيع أن أشرح لها أنها، وهي ما زالت في هذا العمر الغض، قد كتبت عليها مواجهة الشر ممثلًا في الحرب، سأعتذر لأني لا أستطيع أن أشرح لها لماذا ولدت هي في هذه البقعة من العالم، وهذا التوقيت على وجه التحديد، وسأقص عليها فقط حكاية من الحكايات الشعبية التي تحذرنا من النسيان.


بطاقة

باحثة في الدراسات الثقافية ومترجمة مصرية حصلت على الدكتوراه في الأدب المقارن من "جامعة القاهرة"، قسم اللغة الألمانية عام 1996، وعملت بتدريس الأدب الألماني والأدب المقارن في جامعة القاهرة حتى عام 2013، كما عملت بين 2003 و2016 رئيسةً لـ"المؤسسة الثقافية السويسرية" في القاهرة. صدر لها في التأليف: "ديني ودين الناس: الدين والعلمانية والثورة" (2017) و"ن النسوية" (2019). وصدر لها في الترجمة عن الألمانية: "عصور الأدب الألماني: تحوّلات الواقع ومسارات التجديد" (2002) لِباربارا باومان وبريجيت أوبرله، و"نظرية الپارتيزان: استطراد حول مفهوم السياسي" (2009) لِكارل شميت، و"مثلًا أخي" (2005) لِأوفه تيم، و"حزن غير محتمل" (2020) لِبيتر هاندكه، و"تمرّد الفلاحين المصريين 1919: الصراع بين المجتمع الزراعي والاستعمار في مصر 1820 - 1919" (2020) لراينهارد شولتسه، و"سياسة الإذلال: مجالات القوة والعجز" (2021) لِأوتا فريفرت، و"السائرون نياماً" (2022) لهرمان بروخ، و"تقدّم خطوة واقترب" (2023) لنافيد كرماني.
 

المساهمون