مع غزّة: غازي الذيبة

22 فبراير 2024
غازي الذيبة
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة، وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "الإبداع هو في المقاومة"، يقول غازي الذيبة.



■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- لا يشغلني أكثر من طفل يتضوّر جوعاً ويبحث عن أيّ طعام في غزّة، أُمّ تحاول حماية طفلها بذراعيها من القصف الصهيو- أميركي على منزل عائلتها، أبٍ يجمع أشلاء عائلته في أكياس. ولن أنسى وجوه أطفال غزّة، أبنائي، طيوري، من حلّق منهم عالياً، ومن سنراه قريباً وفي يده بندقيته ليثأر للحقّ والعدل في عالمنا البائس.

أحياناً، لا أستطيع إغماض عيني، حتى لا تعبر الكوابيس إليّ. الموت الذي عاشه أجدادي خلال تهجيرهم منذ عام 1948، يتكرّر كلّ يوم في فلسطين، ويتجلّى بكامل أحمره القاني في غزّة. موتُ الفلسطينيّ أصبح هاجسي، وقلقي. أريد أن يحيا شعبي بكامل حريته، وألّا يموت أحد منه.


■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، تركتُ الكتابة والقراءة. ذهبتُ إلى الحلم. أنا الآن أحلم بتحرير بلدي. أقرأ الأخبار وأتابعها بجنون. لم أعد قادراً على كتابة الشعر. كلّ ما يمكن أن أترنّم به تحضيراً لكتابة قصيدة، يعجز أمام المألمة التي نراها على شاشات التلفزيونات حيّةً أمام أعيننا. كيف ستُجدي القصائد والكتابات أمام هذا الألم؟ أحياناً، وفي غمرة كلّ هذا الدم، يركض الأمل في صدري، ويُطمئنني بأنّني سأكتب على باب الحرية أجملَ قصائد شعبي وهو يهتف للانتصار والعائدين.


■ إلى أيّ درجة تشعر بأنّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- لا أرى أنّ الإبداع وسط محرقة غزّة يمكنه أن يصنع هواءً نظيفاً، أو يُطعم طفلة جائعة، أو يُدفئ أضلاع كهل يتلوّى في خيمة. إنّني أتمنى لو كنتُ هناك، أجوعُ معهم، وأعطش معهم، وأقاتل معهم. نحن بحاجة لمن يُخبر العالم قصّتنا. هذا ما أقوم به أحياناً، أحاول إخبار العالم بشيء عمّا حدث لنا، لكنّني لم أعد أثق بإمكانية أن يمسح الشعر أو الموسيقى دموعَ أبٍ فقَد كلّ عائلته.

الإبداع هو في المقاومة، في قتال العدو، وتكبيده خسارة، تحرمه من التفكير ولو لبرهة بأنه سيُعيد قتلكَ ثانية. على كلّ فلسطيني أن يُبدع في محاربة العدوّ ويطارده في كلّ مكان. هناك يكتب قصيدته وأغنيته في دفاعه عن أطفال شعبه، وأحلام أهله. لقد قتل الصهاينة أحلام شعبي، فهل بقي ما يمكن لنا أن نقوله أمام هذا الدم والخراب؟ لا. تخيّل ما يحدث في غزّة من جرائم صهيونية بحقّ الأبرياء والمقاتلين، لا يمكن لأيّ إبداع أن يعبّر عنه. الملحمة الفلسطينية هي الآن تَخطّ إبداعها بدم أبنائنا ومقاتلينا. هذا هو الإبداع المصحوب بالألم والقهر والقلق. شعبنا يكتب قصته بأجساده الممزقة وبيوته المهدّمة وأرواحه التي تأبى الفناء. إنه يخلّد أعظم إلياذات التاريخ البشري في هذه الملحمة الوجودية.

هل بقي ما يمكن لنا أن نقوله أمام هذا الدم والخراب؟

■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- سأذهب للإبداع، ولكنّني حتى في آخر يوم من حياتي، سأمضي للقتال إلى جانب شعبي. نحن شعب سيظلّ محارباً، حتى بعد التحرير سيحارب من أجل تحقيق العدالة دائماً.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- من قال إنّ العالم يتغيّر. ما ارتُكب في الحروب الوحشية عبر التاريخ ضدّ حضاراتنا وأحلامنا المشرقية مستمرّ. نحن نستريح لبرهة من حرب لندخل في أُخرى. هناك انتقاص واضح لمعنانا الوجودي، مع أنّنا أنجبنا أعظم الأنبياء والمفكّرين والمصلحين في هذا الشرق الباذخ بشمسه ولغته وأحلامه. إذا أراد العالم أن يتغيّر، فعليه أن يترك الشرق يعيد هندسته وتعليمه الأسماء والكلمات وصناعة العطر والألوان وعزف الموسيقى. أجمل المعابد في شرقنا احتضنت أجمل قاعات الفنون في بعلبك وعسقلان وقرطاج ودمشق وتدمر. نحن من علّمنا البشرية الأبجدية، المعرفة الأُولى. فإن أراد العالم التغيّر، عليه التوقّف عن سرقتنا وقتلنا. لا يمرّ عقدٌ في التاريخ دون مألمةٍ كبرى في شرقنا، لماذا؟ الأمر واضح، فهُم لا يحبّون الشمس.


■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، ماذا ستقول لها؟

- سبارتاكوس: لماذا لم تهدم روما وتعد بناءها كما نريد؟ محمّد بن أمية، بطل ثورة البشرات في غرناطة: كيف كان طعم خيانة أقربائك لك؟ العربي بن مهيدي، بطل حرب الجزائر: ما الذي شعرتَ به وأنت تعيد ترتيب خريطة الحياة لأمّة المليون ونصف المليون شهيد؟ محمد الأسود.. غيفارا غزّة: يا رجل.. لماذا تركت الحصان وحيداً؟ تشي غيفارا: ألم يكن عليك أن تغيّر طريقك في أدغال بوليفيا لتستمرّ الثورة في العالم؟

وغيرهم، بعضهم التقيت به في الكتب. حلمتُ مثلهم بالحرية، وما زلت.

من الثوّار الأحياء، أريد أن التقي ييحيى السنوار. هذا الثائر، ابن الصفيح والخيام، أعاد الثورة للعالم. أعتقد بأنّ أبناء المخيّمات واللجوء سيسطّرون قريباً واحدةً من أعظم ملاحم التحرير في تاريخ البشرية.


■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- لا تسامحونا لأنّنا نموت قهراً. كان علينا أن نموت ونحن بجانبكم.


■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- تخلّص من جلوسك المملّ في السكون.


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- يا دارين، نحن أقلّ من أن نقول لك ولأطفال فلسطين شيئاً. نحن نتعلّم منك ومنكم ومن غزّة، كيف سيغدو طعم الحرية أجمل في الأيام المقبلة.



بطاقة

شاعر وكاتب سيناريو وصحافي فلسطيني أردني، صدر له في الشعر: "جُمل منسية" (1995)، و"دقيقة وأخرج حياً" (1996)، و"مفاتن الغيب" (2001)، و"حافة الموسيقى" (2001)، و"خَفقةُ الذرَى" (2007) و"بريشة رسام منفيّ" (2023). كتَب سيناريوهات مسلسلات تلفزيونية وأفلام من بينها: "أبناء الرشيد" (بالمشاركة مع غسّان زكريا)، و"ذاكرة جسد"، و"عبد الرحمن بن عوف: قصّة صحابي"، و"تعاشيق".

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون