تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "في هذا الظرف الخطير من تاريخنا، لا بدّ لكلّ منا أن يسأل نفسه: ماذا قدّمتُ لفلسطين؟"، تقول الكاتبة العراقية.
■ ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوان إبادةٍ على غزّة؟
- هو نفسه هاجس مئات الملايين من أحرار العالَم، عرباً وأجانب. أشعر بالغضب كلّ الوقت، والعجز أيضاً إزاء وحشية الصهاينة وسلبية الموقف العربي المتفرّج على إبادة الفلسطينيّين الأبرياء والتنكيل بالبشر والحجر والشجر. بيد أنّي، برغم الحزن الممض، أشعر بشيء من العزاء، لأنّ دماء الشهداء لم تذهب سدى، بعد أن تعرّى الكيان الصهيوني لأوّل مرّة في تاريخه، من خلال تقديمه إلى "محكمة العدل الدولية" بدعوى قضائية شجاعة من جنوب أفريقيا.
لقد كشف الكيان الصهيوني بحرب الإبادة التي يشنّها على غزّة عن حقيقته منذ تأسيسه عام 1948 حتى اليوم، كنظام فصل عنصري تجب محاربته وتفكيكه. تماماً كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي تأسّس أيضاً عام 1948، وتمّ القضاء عليه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حين تكاتف المجتمع الدولي في موقف موحَّد ضاغط لاجتثاثه.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- منذ اللحظات الأُولى لعملية "طوفان الأقصى"، تغيّرت حياتي تماماً، أصبحتُ أتابع أخبار غزّة منذ الصباح حتى ساعة متأخّرة من الليل. ألتهم عشرات المقالات والتحليلات واللقاءات المسجَّلة قديمها وحديثها، وأعمل ما في وسعي للتواصل مع المثقّفين العرب والأجانب، أكتب وأترجم مواد تحليلية أبعث بها إلى إعلاميّين إسبان لتوضيح مجريات الأحداث، أُرسلها لحلفائنا من الإسبان كي يتمكّنوا من نشرها، لأنّ أصواتهم أكثر تأثيراً منّا نحن العرب حالياً بوصفنا "طرفاً منحازاً في الصراع يفتقر إلى الموضوعية"! على حدّ قول الأصوات المتصهينة. ولا أُخفي اشتباكي مع بعض "المثقّفين" ممّن يتبنّون الموقف الصهيوني، أو "الحياد" ومساواة الضحية الفلسطينية بالجلّاد الصهيوني.
■ إلى أي درجة تشعرين بأنّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- لا شكّ لديَّ في جدوى وفاعلية العمل الإبداعي، إلّا أنّ جسامة الأحداث ووحشية العدو الصهيوني في تقتيل أهل غزّة تُعجز المبدع عن اللحاق بها. أنا شخصياً من النوع الذي يعمل إبداعياً تحت أيّ ظرف حياتي، باستثناء الحرب. وقد احتجتُ إلى أعوام طويلة قبل أن أتحدّث عن الحروب وآثارها في مؤامرة تمزيق بلدي العراق. فكان ديوان "حرب تتعرّى أمام نافذتي" أُهجيتي للحرب، ثم أتبعته بديواني "لي منزل هناك". لحظة الحرب هي لحظة توقُّف الحياة - عشتها في بغداد مراراً - وتحت وطأتها تتراجع الكلمات ولا يبقى سوى البحث المحموم عمّا يدفع الموت. لا مجال لأيّ ترف آخر. اللحظة، بعنفها والتأرجح على حافة الحياة أو الموت، تُحيل أيَّ عمل إبداعي إلى ترف لا يُحتمل بالنسبة إليّ. لحظة الحرب تستدعي أولوية المقاومة بالعمل التعبوي والتنظيمي الفاعل بكلّ السبل.
■ لو قُيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختارين المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- من حسن حظّي أنّي، طوال حياتي، زاولتُ أكثر من مجرَّد العمل المهني أو المجال الإبداعي، بل كنت وما زلت ناشطةً من أجل حقوق إنساننا العربي، وحقوق نسائه بنحو خاصّ، متفاعلة مع كافة القضايا المفصلية التي حلّت ببلادنا العربية. لذا، إلى جانب عملي الرسمي في التدريس الجامعي أو في الترجمة الفورية للمؤتمرات الدولية والكتابة الإبداعية والترجمة الأدبية، حاضرتُ وكتبت ونشرت وترجمت تحريرياً وفورياً، تطوّعاً مع منظّمات إنسانية إسبانية ودولية وعربية، من فلسطين المحتلّة تحديداً من قبل عملية "طوفان الأقصى"، وهذا هو أضعف الإيمان. في هذا الظرف الخطير من تاريخنا، لا بدّ لكلّ منا أن يسأل نفسه: ماذا قدّمتُ لفلسطين؟ وفي المقدّمة يقف المثقّفون، لأنّ عليهم، أخلاقياً، واجباً أكبر ممّا على سواهم، وإلّا فما جدواهم إن لم ينتصروا للحق الفلسطيني في هذه الأيام؟
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- في حوار سابق مع "العربي الجديد"، قلت: "أمّا أمنياتي للعالَم فأنا أحلم بمعجزة أُخرى، تُنهي الظلم والاستبداد والفقر والمجاعة، وقوى الهيمنة المتسلّطة على مقدّرات شعوب كثيرة، وأوّلها الشعب الفلسطيني الذي يعاني، منذ أكثر من سبعين عاماً، شتّى أنواع الظُّلم وانتهاكات حقوق الإنسان على يدِ الصهاينة الغاصبين، والعالم يتفرّج ببلادة وازدواجية معايير. وتبقى قضية السلام في العالم أولوية لا غنًى عنها، وكذلك التعامُل بروحٍ أقلّ نفعية وضراوة على مستوى العلاقات الدولية، واحترام المعايير الإنسانية وعدم اعتماد مبدأ ازدواجية المعايير الذي بات سمة زمننا الظالم هذا". وهذه الأمنية الشخصية باتت، بفضل نضال وصمود أهل غزّة، مطلباً إنسانياً كونياً تناضل من أجله كلُّ قوى الخير والعدالة في العالم.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّين لقاءها، وماذا ستقولين لها؟
- لا أستطيع أن أذكر اسماً واحداً فقط، إذ ثمّة كثير من الرموز الإبداعية التي اختارت النضال والتصدّي للقوى الاستعمارية، سواء من بلادنا العربية ومن تاريخنا وتراثنا العربي والإسلامي، أو من الرموز الإنسانية. هذه السلالة المتفرّدة من رجال ونساء، من شيوخ وأطفال، من شتّى القارّات والبلدان التي ناضلت بكرامة وبطولة ونالت حرّيتها بعد أن عمّدتها بدماء الشهداء هي شرف الإنسانية ومجدها الذي تزهو به. إنّهم يتقدّمون علينا جميعا بإنسانيتهم وسخائهم ونبلهم. والمبدعون نالوا شرفَين: المقاومة والإبداع. شكراً لهم على مقاومتهم وعلى إبداعهم الذي خلّد نضال شعوبهم في مواجهة قوى الهيمنة والتسلُّط على مقدّرات الشعوب. أقول لهم: شكراً لأنّكم شكّلتم وعينا الذي نحن مدينون لكم به وللشهداء.
■ كلمة تقولينها للناس في غزّة؟
- لقد أحدثتم هزّة عميقة لضمير العالم المتناوم عبر صمودكم الأسطوري وبطولاتكم وتضحياتكم المذهلة. أنتم المقاومون الوحيدون في زمننا المبتلى بالتفاهة ونمط الاستهلاك الغربي الذي تغلغل في شعوبنا العربية حتى أنساها واقعها ومسؤولياتها إزاء نفسها وهويتها، إزاء تراثها وقيمها. لقد جعلتمونا ننحني إجلالاً لألمكم وعمق انتمائكم إلى أرض فلسطين المقاومة. بتضحياتكم ألزمتم الأبواق المطبّعة الصمت والشعور بالخزي والعار. أنتم ملحمتنا الأروع وأنتم قصيدتنا الأبلغ لأنّكم تخطّونها في كل لحظة بدمائكم. أنتم من غيّر المعادلة الجاثمة على قلوبكم وقلوبنا منذ قرابة قرن. أنتم من حرّرتم أنفسكم منها، وحرّرتم معكم العرب والإنسانية في كلّ مكان، وساعدتم كثيرين في العالم على إعادة فهم أبجدية الصراع الفلسطيني العربي - الصهيوني، وعلى تفكيك خطاب الصهاينة الذين ابتزّوا العالم بخطاب "الضحية" كي يتمادوا في إجرامهم ويفلتوا من العقاب. لقد أعليتم الحقيقة التاريخية المغيَّبة: لا ضحية اليوم سواكم، ولا جلّاد سوى الصهاينة.
■ كلمة تقولينها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- أقول للإنسان العربي بأعلى صوت: كفى سباتاً، كفى خنوعاً! العالم كلُّه يبتكر وسائل مدهشة لدعم الفلسطينيّين، وللمساهمة في كشف حقيقة الكيان الصهيوني الذي ملأت أكاذيبه العالم من خلال اللوبيات الصهيونية ودوائرها التي استحكمت في الغرب منذ زمن طويل، وتسلّلت إلى بلادنا العربية في العقود الأخيرة بسبب الخونة المطبّعين. الفلسطينيون في غزّة يُواجهون ترسانة السلاح الصهيوني-الأميركي بأسلحة بسيطة، لكن بشَجاعة ما بعدها شجاعة وشرف لا يدانيه شرف. لقد حطّموا أسطورة الكيان الصهيوني المتفوّق، لأوّل مرة منذ بدء الصراع قبل أكثر من ثمانية عقود، فلا تتركوهم وحدهم. نصف مليار عربي قادرون على الوقوف في وجه العنصريّين المتطرّفين الصهاينة المهووسين بفكرة تفوُّقهم على شعوب الأرض كافّة، وليس فقط على الفلسطينيّين.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت: "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقولين لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أقول لصغيرتي الجريحة دارين ولكلّ الأطفال الراقدين في العراء في انتظار يد تمنّ عليهم بالطعام والعلاج والأمان: لقد كبرتم ونضجتم قبل الأوان، وبتُّم تُعلّمون الكبار دروساً في الشجاعة والفداء وحب الأوطان. لقد غدوتم قدوة الأجيال الحالية من أقرانكم ومثلاً يُحتذى للأجيال القادمة في البطولة والتضحية والكرامة والإباء. ومع أنّكم حُرمتم من كلّ ما ينعم به أطفال العالم، لكنكم استحققتم بجدارةٍ المكوث في قلوب وضمير مئات ملايين البشر من نساء ورجال. بدمائكم البريئة تصنعون مستقبلاً لأولادكم القادمين عجزت عن تقديمه دول عربية ونظم سياسية وهيئات ومنابر عربية وعالمية. أقول لهم: أنتم الباقون، أنتم ملح أرض فلسطين، وسواكم غبار.
بطاقة
كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية، من مواليد بغداد عام 1957، تقيم في إسبانيا. وإضافة إلى عملها الإبداعي والأكاديمي، تنشط في مجال حقوق الإنسان وحقوق النساء العربيات والمسلمات في الغرب. صدر لها في الترجمة عن الإسبانية أكثر من عشرة كُتب؛ من بينها: "تأمُّلات حول قرطبة في القرن الحادي والعشرين" (2016) لـ إدواردو بوسكيتس، و"من آبله إلى مكّة: حكاية رحلة عمر بطون" (2022). ومن إصداراتها الشعرية: "حرب تتعرّى أمام نافذتي" (2019) و"لي منزل هناك" (2022)، وفي القصّة: "تأمُّلات بوذية على رصيف الموت" (2006)، وفي المسرح: "كرسيّ على الحدود" (2019).