على مدار أكثر من أربعة عقود، قدّم المفكر الأردني الفلسطيني فهمي جدعان (1939) رؤيته المختلفة للتراث العربي، التي سعى إلى تحريره عبر إعادة فهم النص وتمثّله وتحققه في الحياة المعاصرة، والخروج من مآزق عديدة تحاصر المسلمون اليوم.
واستطاع عبر شروحاته المعمّقة لتاريخ الحضارة الإسلامية التي أطّرت أبرز مساراته وما تضمّنته من مقاربات فكرية عبر ألف وأربعمئة عام، الوقوف في مساحة توفّق بين العقل والنص، من دون تعظيم لأية خصوصية ثقافية عربية، كما تمكّن من التصدي للمغالطات الاستشراقية الغربية في تعاملها مع تمثّلات النص في الوقت نفسه.
"معنى الأشياء.. رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً لجدعان عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، حيث يطرح تساؤلات عدّة مثل "ما (القول)، الذي يستطيع المفكر، في حدود عقله التأملي، المعرفي والوجداني، أن يرسله، في مدى البقاء أو الفقد، كي لا تظل المدينة بلا أسوار، وكي يكون العمر الذي كان عمراً سيكون؟".
ما (القول)، الذي يستطيع المفكر، في حدود عقله التأملي، أن يرسله، كي لا تظل المدينة العربية بلا أسوار؟
وتأتي هذه التساؤلات في سياق اشتباك صاحب كتاب " فتوحات شاردة لأنوار عربية مستدامة" مع اللحظة الراهنة التي يعبّر عنها على غلاف كتابه بقوله "في مدينة بلا أسوار، هي مدينتا العربية، تتدافع بلا رحمة النظم والأفكار والإرادات والأهواء والرغبات. وعند بواباتها تتحفّز كتائب الثأر والفناء والكراهية والاغتصاب. وفي أعطافها تنتشر أعلام الشك والحيرة وزيغ التبصّر والظنون والقلق والغضب، ويعلو الشر على الخير، والظلم على العدل، والاستبداد على الرحمة. تنبه قيمُ الرحمة والعدالة والكرامة والصداقة والحبّ والأصالة والإيمان على معانيها في معركة الحياة والموت، أو (الحياة الموت)".
قراءة جديدة يقدّمها جدعان الذي بذل جهداً معرفياً من أجل وضع حدّ لحالة "الاغتراب" التي تتلبّس الكاتب والمثقف والفيلسوف والمفكّر والعالم كما في مؤلفاته السابقة، حيث يقول في كتابه "هذه مقالة مرسلة (أشياء). والشيء اسم للموجود الثابت المتحقّق الذي يصحّ أن يتصوّر ويخبر عنه سواء أكان حسياً أم معنوياً. وهي رسالة تستقطب ثلاثة أمور متراكبة: الأول: إنّها تنطق بما انتهى إليه تفكيري فيما أقدّر أنّه أكثر الأشياء أهمية في وجودنا المشخّص المباشر".
أما الثاني، فإنها "تتمثّل في الآن نفسه ما يشخص في هذا الوجود من مستصعبات تخطر في أعطاف الصيرورة التاريخية لجماعات العرب، أو، عند من يشاء، أمة العرب، ولهذا الإنسان الذي يرث تاريخاً أخذ بتلابيب العالم في دهر من الدهور، وأجرى أنواراً كونية بازغة من التحضّر والترقي والتخلّق، ولكن، أحكاماً من القهر والغلبة طالت بلداناً وجماعات وأقواماً وشعوباً وعقائد وديانات، بل حضارات، فباتت وبات مطلب (ثأراً تاريخياً)، يقصد إلى ردها ورده إلى أدنى درجات الوجود. وفي هذا السياق هي تتردّد بين: الذاتي، الذي يبيّن عمّا أرى وأقدّر، والجمعي؛ الذي يفرض منطقه وأحكامه وإلزاماته"، بحسب المؤلف.
ويوضّح في الأمر الثالث "هي ضاربة في معنى ما يحاد دارة الفلسفة ويخالطها بعض المخالطة، لأنه ليس للفلسفة شاطئاً بين وحد قاطع. فمنذ (أرسطو)، الذي تمثّلها أنطولوجيا أو نظراً في الوجود بما هو وجود، إلى (جيل دلوز)، الذي جعلها (إبداعا للمفاهيم)، تقلّبت الفلسفة في ألف فهم وفهم، لكنّها ظلّت في أغلب الفهم قرينة بالإنسان. رهينة بعقلنة الأمور وبإسباغ المعنى عليها. وفي هذا القصد نشهد حشداً عظيماً من الحدود والمعاني التي تتقلّب بين الإحالات اللغوية أو الرمزية أو الموضوعية: معرفياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو أخلاقياً، وغير ذلك".
ويوضّح بأنه "بما هي "رسالة"، أو "قول مرسل"، وتفكّر وتأمّل ونظر وتقدير واعتقاد، فإنها ليست "بحثاً"، تقليدياً يجري مجرى البحوث الأكاديمية التي جريت عليها في أعمال أخرى والتي نألفها في الدراسات "الرسائل الجامعية" العلمية أو المُصنفات البحثية التقليدية التي يعتنق أصحابها هذا المنهج أو ذاك من مناهج البحث المتداولة أو المخترعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وذلك يعني أنني، فيها لا أسيّج ما أرسله أو ما أقرّره أو ما أجنح إليه أو أميل إليه باستحضار "موثّق" لما أسوّقه من أقوال أو أفكار أو نصوص لهذا المفكر أو الفيلسوف أو الكاتب، وفقا لهذه الطريقة أو تلك من طرق التحقق والتثبت المتداولة؟".
يُذكر أن فهمي جدعان حاز درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام من "جامعة السوربون" سنة 1968، وعمل أستاذاً في "الجامعة الأردنية" و"جامعة الكويت". وله مؤّلفات عدّة منها "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام"، و"الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية"، و"أسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث"، و"في الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين"، و"خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية"، و"تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات"، و"طائر التم-حكايات جنى الخطا والأيام".