مصنوعٌ من الأيّام

28 يوليو 2022
الممشى الموصل إلى ماونتنفيل أكبر تجمّع للمنحوتات الخارجية في نيويورك، 2013 (Getty)
+ الخط -

أكثر ما يتعامل الروائيون مع الزمن، لما يشكّله من فضاءٍ لحكاياتهم. في كُلّ قصة يصنع الكاتب زمناً روائيّاً قد يلتقي أو يفترق مع الزمن العام المشهود له والمعروف لدى الآخرين. وكثيراً ما يتّكئ الروائيون على الأحداث العامّة لبناء حكاياتهم، كما يمكن تمثيل الزمن العام مع أحداثه، بالنَّول الذي ينسج عليه الروائيّون الحكايات.

لا تقتصر علاقة الروائيّين مع الزمن باعتباره فضاءً حكائيّاً، وإنّما قد يشكّل إلهاماً في تقلّباته. فالكُتّاب يلتقطون اللحظات الفارقة في المصير العام ويبنون عليها. إلى جانب أنّ الشخصيات نفسها تُطالِب كاتبها بصورة مُلحّة بأن يصنع لها ماضٍ، بتأسيس اللحظة التي يسردها من حياتها على لحظة سابقة. كما لا تستطيع الشخصيات المكتوبة الوصول إلى القارئ بصورة مُقنِعة ما لم يكن لها ماضٍ، ما لم تدخل لعبة الزمن التي تَفْتِنُ الروائيّين.

لربّما تكمن فتنة السرد أساساً في مراقبة عبور الزمن، فالشاب يشيخ، والأبناء يصيرون آباءً. هذا ما ندركه في الحياة الواقعيّة إذا كُتِبَ لأحدنا أن يعيش قسطاً من العمر. لكن لكتابة آثار الزمن طعماً آخر، يتأتّى من السلطة التي تمنحها الكتابة للروائي، باكتشافه أنّ بمقدوره التدخّل في مسار الزمن. ولو بحدود. كي يوضّح علامةً من علامات عبوره، أو يمحو أُخرى. وبإدراكه أنّه يبني معماراً زمنياً مقابلاً لذلك الذي في الحياة، معماراً متيناً كما لو أنّه مصنوعٌ من الطوب ومرناً كما لو أنّه مصنوعٌ من الأيام. ولإتقان دور الزمن في صناعة الشخصيات أهمية لا تُضاهى، ما يفسّر حديث المحرّرين عن ضبط إيقاع الزمن في رواية عملوا عليها. لأنّ فشل الشخصيات في تحقيق اتّساقها الزمني العام والخاص، من أكثر المثالب التي قد تؤخذ على الكتابة الروائيّة.

متين كما لو أنّه من الطوب ومرن كما لو أنّه من الأيام

أيضاً لا تقتصر العلاقة مع الزمن على استلهام اللحظات الفارقة، أو بناء الشخصيات وفقاً لمعمار زمني مضبوط ومحدّد، وإنّما يتدخّل الزمن في طبيعة الشخصيات المكتوبة. على ضوء هذا، يصعب أن يصنع زمنٌ باهت أبطالاً مشرقين. وإن كان بمقدورنا تشبيه الزمن بالخيط الممتدّ من الماضي إلى المستقبل، أو اعتباره سرديّاً مجرّد لحظة تنتهز الماضي القريب، وسرعان ما تبارحه، يبقى لكلّ زمن روائي قوانينهُ وأبطاله.

في سورية على سبيل المثال، دعا الروائي السوري حيدر حيدر (1936)، الثمانينيات في دمشق بـ"الزمن الموحش". وبهذا لا يسِم كلّ الزمان بالموحش، وإنّما يسمه بالموحش ضمن شرط الرواية السياسي الاجتماعي؛ حيثُ فوضى الاعتقال والعنف وتقييد الحرّيات، حيث لحظة العنف تنهل من الماضي وترمي إلى المستقبل. ما يدفع الإنسان بصورة قهرية إلى أزمنة مديدة من العسف وتبديد الأحلام. إذاً، يمكن للزمن أن يكون أداة الروائيّين المختصرة والمباشرة في قول كلمتهم عبر وسمهِ بصفةٍ ما، قد تختزل عشرات الصفحات في وصف الواقع.

الزمن الثوري مثلاً، ينعش السرد، سواء أكان زمناً موحشاً أم بطوليّاً. كما تأخذ الأحداث الكبرى، مثل الثورات، أهميتها في السرد لأنّها حدثٌ مفاجئ يقطع انسياب الزمن، واستسلامه لاستحالة التغيير فيهِ. ويعرف الكتّاب أنّ فهم زمانهم أشدّ ما يحتاجون إليهِ، ووضع شخصياتهم في إطارِ أزمنةٍ أشمل أكثر ما يشير إلى نضج الكتابة والتجربة. بهذا المعنى، ليس مثل الروائي من يجد نفسه مضطرّاً إلى التعامُل مع الزمن والانسياب في منطقه، ومحاكاة طبيعة أهله، التي تصنعها ظروفٌ وقتيّة مثل الحرب أو الثورة أو التغيّرات الاقتصاديّة. في الأحوال كافة، تبقى مهارة الروائي مرتبطة بقدرته على قراءة الزمن. لكن في جانب آخر، يبقى الزمن أسير العين التي تراه وتكتبه.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون