استمع إلى الملخص
- خلال عمله كطبيب، يتعمق في تجارب اللاجئين، يقدم الدعم الطبي والنفسي، ويلاحظ كيف يعود الأفراد إلى لغتهم الأم في الألم، مما يزيد من إحساسه بالمسؤولية تجاههم.
- يُظهر تضامنه مع اللاجئين عندما يُطلب منه النزول من الميكروباص، يختار الوقوف إلى جانب لاجئ إفريقي، مؤكدًا على وحدة الإنسانية وأهمية التعاطف والفهم المتبادل.
قرأتُ اليوم منشورات كثيرة جدًّا رافضة لوجود اللّاجئين الأفارقة في مصر، فتذكّرت يوم أنهيت أوراق تسلُّم العمل بمستشفى القاهرة الجديدة. يومها خرجتُ لأقف تائهًا أمام المستشفى تحت شمس أغسطس لا أدري ماذا أفعل، كيف سأعود إلى بيتي بالشرقية، لا أعرف الطريق ولا المواصلات! قال لي موظّفو المستشفى أن أنتظر ميكروباص الحيّ العاشر عند مكان كذا خارج المستشفى.
ذهبتُ إلى ذلك المكان، فوجدتُ منتظرِي الميكروباص من جنسيّات إفريقية كثيرة. سُمرة لامعة، أقراط في الأنف، شعر مجعّد، غمغمات وصِبْيَةٌ على أعيُنهم خوفٌ فِطْري لم أستطع تفسيره.
انتظرتُ وسطهم حتى جاء الميكروباص وركبنا واستقرَرْنا فوق الكراسي وكلُّ شيءٍ طبيعي، لكنّ السائق التفتَ وقال: "مصريّين بس!".
الغريب سجينٌ وإن امتلك جناحَي طير
شعرتُ حينها أنّي في مشهد مسرحي، ظنَنتُه "يهزّر" في البداية، لكن الأفارقة نزلوا من الميكروباص دون جدَل ليقفُوا تحت الشمس من جديد. وانطلق الميكروباص وأنا فيه أنظر للخلف، أهذا قد حدث حقًّا؟ لابدّ أنّ هناك تفسيرًا غير الذي فهمته، ولأن الغريب لا يتكلّم، عُقد لساني.
***
بعد ذلك اليوم، صرتُ ضيفَ المدينة في "نوبتجيات" الطوارئ، ليلُها لَيلي، وسُكّانها الغرباء مرضاي. غريبٌ يُعالِج غريباً. لا تخلو ليلة من إفريقي يُتأتِئ ويُتهته لعلّه يُعبّر عن علّته، يقول: "سُئونة" لا "حرارة"، يقول: "رااس، ألم" لا "صُداع"، ويتلوّى مُنثنيًا على كبده، ولا يقول ألم. يعود الإنسان في ألمه للغته الأمّ أو أقرب ترجمة لها. الغريب يتألّم، وتهرب منه اللغة، اللغة مرآة الغربة، عنصرية بطبعها.
***
أشعر بمسؤولية تجاههم فوق المسؤولية الطبّية. أقفُ بجوارهم ترجمانًا، أتأكّد من كلّ ممارسات التمريض تجاههم، ولا أطرد عن وجهي الابتسام. إني أنا أخوك فلا تبتئس. أيّ خطأ منّي سيُخيفهم. الغريب يخاف من العبوس. كلّ عبوس هو احتمال غدر.
***
في ليلة من الليالي، سمعتُ صراخًا نحيلًا، صوتٌ حادّ كأنه من جرس أو مزمار. كنتُ جالسًا حينها في غُرفة الطوارئ مُنتظرًا الطفل القادم، لكنّ الصوت الذي سمعتُه ليس صوتَ طفل. أردتُ معرفة مصدره، خاصة حين اشتدّ وبانت لغة الصارخ، أعجميٌّ يُغمغم بلكنة إفريقية. أخذني الفضول فاتّجهت ناحيته، صوته قادم من ناحية غرفة أشعّة "السونار".
***
اقتربتُ من الصوت حتى رأيته في الطّرقة، شابًّا لا يزيد عُمره على العشرين. منثنيًا على كبده واضعًا يده على جنبه الأيمن، يبدو مريضَ التهاب زائدة حادّ. تأكّدت من ذلك، إذ كان حوله طبيب الأشعة والتمريض يحاولان إقناعه بإجراء أشعّة "السونار"، وهو يتحامل على نفسه، يُريد تَرْك المستشفى لأنه يظنّ أنهم يريدون فَتْح بطنه وسرقة أعضائه. كان يدفعُنا بيد، ويضع الأُخرى على جنبه الصارخ. يبكي، كان يبكي، يقول وسط غمغماته: "لأ، لأ".
***
حاولتُ أن أُقنعه معهم، جلستُ جواره وأحطت كتفَه بيدي. ارتعد وأبعدني. ذكّرني بلوحة إيفان الرهيب للرسّام الروسي إيلي ريبين، عيونُه جاحظة، وأنفُه... أين أنفه؟ انتبهتُ لموضع أنفه الفارغ، مكسورٌ تظهرُ فتحتا منخاره من الأمام بلا غضروف، هذا غير آثار جروح قديمة في وجهه، جروح متعرّجة بطول وجهه. عنده حقّ ليخاف. لكن المهمّ أنّه وافَق أخيرًا على إجراء "السونار". الغريب خائف، الغريب مستباح.
***
في ليلة أُخرى، جاءتنا طفلة مُرتخية الجسد وعيُها متأرجح بين إغفاءة وإفاقة. لم يُخبرنا الأب إلّا بأنّها وقعت على رأسها، وعيناها نظرتا للأعلى وأطرافها اهتزّت. كانت أمّها تبكي وتصرخ بكلمات ما بين الإنكليزية ولُغة إفريقية، لم أفهم من كلامها سوى كلمة: "جن، جن".
نزلوا من الميكروباص دون جدَل ليقفُوا تحت الشمس من جديد
كانت حالة البنت مستقرّة، كلّ علاماتها الحيوية طبيعية. بدَت في مرحلة ما بعد التشنُّجات، لا تحتاج سوى متابعة وإجراء أشعّة.
كتبتُ لها طلب الأشعّة، فثارت الأمّ في المستشفى كلّها، كانت تصرخ بالإنكليزية: "ستقتلونها، ستقتلونها".
وقفتُ أمامها محاولًا شرح حالتها، تشنُّجات، فيتس، كونفالغنز، سيغرز، ما الكلمة التي سيفهمونها؟ الغريب سجينٌ وإن امتلك جناحَي طير.
***
اقتنعوا بالأشعّة، ناداني طبيب الأشعّة بعد دقيقتين، لم يكتب تقريرًا، أراد أن يُريني الأشعّة نفسها، فبدماغ البنت كتلة، كُرة، مصيبة ستغيّر حياتها. قلت له ساخرًا: "كتلة أوسخ من الجنّ".
لا أعلم لماذا تذكّرت أن الجنّ آمن بالنبي في طريق عودته من غُربة الطائف. الجنّ يرأف بالغريب، المرضُ لا يفعل.
***
وأخيرًا، كنتُ اليوم في "نوبتجية"، وكان معي - ككلّ نوبتجية - مريضٌ إفريقي. لكنّه لم يتأخّر في المرض، تحسّن في العلاج بسُرعة وخرَج معي من باب المستشفى لينتظر الميكروباص القادم الذي ركبناه معًا. قال السائق الصعيدي بعدما ركبنا: "مصريّين بس!".
فنزلتُ من الميكروباص، لأقف مع الإفريقي وسط هواء الربيع الذي يهيّج جيوبي الأنفيّة، لكن بعيونٍ مُبتسمة، فالغريب يبحث عن وطنه، في عيون الناس.
* قاصّ وطبيب أطفال مصري من مواليد عام 1996. له مجموعتان قصصيّتان: "الوحل والنجوم" (2022)، و"رأيتُ البحر" الصادرة هذا العام