في سياقٍ مُتسارع لتطوير المُدن الخليجية المعاصرة، نرى أنّ ما يحدث في المملكة العربية السعودية يستحقّ الفحص، ومن هنا تأتي مشروعية التأمّلات النقدية في المدينة الخطّية (نسبةً إلى الخطّ The Line). على الرغم من أنّ الحياة تقلّد الفنّ والفنّ يقلّد الحياة، إلّا أنّه من المُهمّ التعلّم من التاريخ، عندما يتعلّق الأمر بالبيئة المَبنيّة. لقد كانت لفكرة المدينة الخطّية مكانةٌ خاصّة بين العديد من المفاهيم التخطيطية والمعمارية والنظريات الطوباوية التي طُوّرت على مرّ السنين. وقد سُوِّقت الفكرة من منطلق أنّ مزايا المدينة الخطّية هي العلاقة الوثيقة مع الطبيعة، والسياق، والمرونة، والانفتاح على النموّ. كما ميّز التطوير الخطّي أن جميع مكوّنات المدينة قريبةٌ من محور النقل الرئيسي ويمكن الوصول إليها بسهولة من حيث الوقت والجهد.
يوثق تاريخ العمران أنّ المصمم الإسباني أرتورو ماتا كان أوّل مَن اقترح في عام 1882 فكرة المدينة الخطّية، وتصميم المدينة بالتوازي مع نهر أو محور حركة عمراني. ومع نموّ المدينة، تُضاف قطاعاتٌ إلى الأطراف، بحيث تُصبح المدينة أطول، دون أنَ يزيد عرضها. تمّ الترويج للفكرة في وقتٍ لاحق من قِبَل المخطّط السوفييتي نيكولاي ميليوتين في أواخر العقد الثاني من القرن الماضي. كما أن تجربة احتواء كمٍّ من البشر في سياق خطّي، لها تأصيلٌ تاريخي في فكرِ بعض المخطّطين الطليعيّين في حقبة الستينيات، حيث نوثّق تجربة آلان بوتويل ومايك ميتشل في عام 1969، اللذَين استكشفا التصميم المفاهيمي بعنوان "مدينة مستمرّة لمليون إنسان". واختبر المصمّمان الفكرة من خلال تصميمهما للهياكل الضخمة الخيالية لمدينة عملاقة مُستقبلية، ستكون موطناً لملايين الأميركيّين.
وكما يُجادل الناقد الراحل رينر بانهام في كتابه المهمّ الصادر عام 1976، "البنية الضخمة: المستقبل الحضَري للماضي القريب"، هذا التصنيف من الهياكل الضخمة الذي تبلور في عقدَي الستينيات والسبعينيات، واستلهاماً من القِيم والمُثل العليا الطوباوية، استكشف المعماريون إنشاء هياكل ضخمة يمكنُها إيواء المجتمعات وكذلك المدن بأكملها. كانت الهياكل الضخمة أكثر من مجرّد مبانٍ، فقد كانت "خارطة طُرق لتنظيم المجتمع"، وكانت معقّدة ومُكلفة للبناء، ظلّت العديد من الهياكل الضخمة - على الرغم من شعبيتها في جميع أنحاء العالم - كمفاهيم نظرية فقط ولم تتحقّق في الواقع أبداً. وعلى الرغم من أنّ الحماس للهياكل الضخمة تلاشى، إلا أنّ الخيال العلمي في هوليوود أعطاها مساحة أكبر للازدهار. وفي عوالم السينما استُخدمت تلك الصياغات المفاهيمية للمدينة الخطّية أو العملاقة التي تحتوي الملايين للتعبير عن العوالم المستقبلية، كما في فيلم "نجم الموت" من سلسلة "حرب النجوم"، أو في فيلم "العنصر الخامس". بل تمكن رؤية أطروحات المعماري المستقبلي أنطونيو سانت إيليا، الذي رحل عام 1916، في أفلام مثل "متروبوليس" (1927)، و"عدّاء الشفرة" (1982).
فانتازيا عقارية يغادرها الناس عند أوّل أزمة مالية
"زجاج معكوس! مسكين كلُّ مخلوق موجود خارج تلك المرايا"؛ كان هذا هو الانطباع الذي وثّقتُه من ردّ فعل ناشطة بيئية عندما تأمّلت صورَ مشروع "الخطّ" ومراياه العملاقة الممتدّة. ثم استطردت متسائلة عن منطق علاقة المدينة بما حولها، ورفضِها لحتميّة معاناة السياق بمكوّناته البيئية، والطبيعية، والإنسانية، والحيوانية، بل والطيور، بسبب مراياها العملاقة الممتدّة لكيلومترات.
هل تذكرون مدينة "مصدر" في أبوظبي، التي تساءلنا حين الإعلان عنها: هل هي فقاعة مستدامة أم حلم ممزَّق؟ في عام 2006، أطلقت أبوظبي مشروعاً طَموحاً لبناء أوّل مدينة خالية من الكربون في العالم، وتوضّح قصّة "مصدر" المُحزنة والمُحبِطة الفارق الصارخ بين الرؤية والواقع. تم استدعاء المعماري العالمي نورمان فوستر وشركائه لوضع الرؤية التخطيطية للمدينة، وأُنفقت المليارات. مخطّطو المدينة لم يقدّموا رؤىً حول التصميم العمراني فحسب، بل اقترحوا أيضاً طُرقاً لتخيُّل مستقبلِ الحياة والطاقة والمناخ. وبعد أكثر من خمسةَ عشر عاماً، تبيّن أن مدينة "مصدر" سرابٌ يتلاشى كلّما اقتربتَ منه، وتبين أنّ التقنيات التي روّجت لها "مصدر" لم تنجح في الواقع. إنّ "مصدر" هي درس لكيفية قيام أوهام العظمة وهشاشة النوايا، بإجهاض فكرة قد تكون قيّمة ومثالية من مصداقيتها واعتبارها.
في كتابه "سفينة الفضاء في الصحراء"، يتناول جوكش غونيل (2019) قصّة "مصدر"، التي كانت تسوّق على أنها "مدينة فاضلة" ترعاها الحكومة الإماراتية. العديد من مبادرات مصدر - مثل تطوير موارد طاقة جديدة، وشبكة نقل سريع بدون سائق - قد توقّفت ولم يتبقَّ من الحلم إلّا مقارّ شركات، ومعهد تقني فيه مجموعة محدودة من الطلبة والباحثين. إنّ فشل "مصدر" ـ التي سُوّقت للعالم كلّه كأوّل مدينة عديمة الانبعاث الكربوني، وعديمة التلوّث، وعديمة المخلّفات، والأكثر استدامة في الكون ـ كان بسبب أنّها كانت في الواقع جزءاً من "دبْيَيَة" (من دُبي) المدن الخليجية والعربية بإنتاج سرديات شكلية، وغريبة وخيالية ولا توجد النوايا الصادقة لتفعيلها، ولكنّها تُحقّق النجاحات الدعائية المطلوبة لخلق صُور مثل مدينة دبي تجعل الكثيرين يتحدّثون عنها دائماً. تماماً كفكرة أكبر مجمع تجاري وأضخم الملاهي، وأعلى برج في العالم، ومشروع النخلة، وجزيرة العالم وغيرها من "الفانتازيا العقارية" التي يسهّلها وجود المال المتدفّق، ويغادرها الناس عند أوّل أزمة مالية تلوحُ في الأفق.
اللجوء إلى المعمار الغريب كوسيلة ليتحدّث عنك العالم
نحن الآن نشهد حقبة جديدة تتغيّر فيها الأدوار. فوليّ العهد محمد بن سلمان يُحقّق لنفسه مستوىً آخر من الانتشاء، ولكنّه استمرار لنفس مدرسة "الدبْيَيَة" العمرانية والتسويقية ببناء الغريب والشكلي والفانتازي. هو الآن يمتلك التدفّقات النقدية التي تتواضع أمامها أرصدة دبي وأبوظبي، ويمتلك الرغبة الشديدة في أن يتحدّث عنه العالم كما تحدّث سابقاً عن دبي وأبوظبي وحكّامهما. يتذكّر كيف تناولوا دور محمد بن راشد في تحقيق "معجزة دبي"، كما يُبالغ ويصفها البعض، ويريد أن يكون هو الراعي الجديد لنموذج نهضة فريد.
إذن، هي نفس الطلبات والأحلام والطموحات للأمير الجديد المُقترب من عرش المُلك، فلماذا لا نلجأ إلى نفس الحلول؟ دعونا نستدعي فريقاً استشارياً أجنبياً يؤكّد لنا أنّ 'الخطّ' هو الحلّ، وأنّ المرايا العاكسة هي الأمل، وأنّ النمو الخطّي الممتدّ لمسافة 170 كم، وبعرض 200 متر، وارتفاع 500 متر، هو التصوّر لـ"مدينة فاضلة" مُستدامة عديمة التلوّث مُفعمة بالحياة، ولنجعلِ العالم يتحدّث عنها في وسائل الإعلام العالمية. وبهذه القياسات، فطولُ الخطّ يُماثل المسافة بين مدينتي أبوظبي والشارقة أو المسافة من القاهرة إلى الإسكندرية، ويمكن أن يقطع إيطاليا إلى النصف.
علمياً وبحثياً، نعرف أنّ السياقات العمرانية والمباني التي تؤدّي أفضلَ أداءٍ، بيئياً، هي تلك التي تُحقّق درجةً من التوازن بين حجمها ومساحة سطحها، ولذا ناطحات السحاب تفشل في هذا الصدد. لذلك نتوقّع نفس الإخفاق في مدينة خطّية زُجاجية التغليف أيضاً. ولأن المشروع نبَع من رؤى تشكيلية هادفة للتسويق والترويج ولفْت الانتباه أكثر من التعلّم من التاريخ، أو من نتائج الأبحاث المُعاصرة، فإنّ "الخطّ" هو مشروع فانتازيا ومجرّد حيلة تسويقية ضخمة. في النهاية، عندما تنفق السعودية المليارات وتكمل المشرع - في حال اكتمل هذا المبنى الذي يبلغ طولُه 170 كيلومتراً في الصحراء ـ فإنه لن يؤدّي إلّا إلى جلب بعض السياح، وسوف يأتون مدفوعين بالفضول. وقد يسقط تماماً سؤال مَن هو مسؤول عن الوفاء بمطالبات الاستدامة، والتي تلوّن كلّ دعايات المشروع ووعوده.
وكما حدث مع "مصدر" تماماً، سيتحدّث الكثيرون عن عظَمة المشروع وتفرُّده، وسيُقدّم البعض دلائل على أصالة الفكرة وأن لها جذوراً تاريخية في الفِكر التخطيطي العالمي لعمل المُدن الخطّية، وسيُتحفنا الاستشاريون والمسوّقون الأجانب، وهم يُعلنون انبهارهم بهذه الرؤية المُبهِرة لقيادة مبهرة من العالم العربي. ثم ستتدفّق الأموال على مجموعاتٍ من الاستشاريّين الأجانب الذين أصبحت السعودية الآن معملهم المعماري والعمراني الجديد، بعد إغلاق معامل دبي وأبوظبي إثر إنهاكها بتجارب معمارية وعمرانية ساذجة، وبعضها جرائم حقيقية في حقّ المجتمع، والعمران، والعمارة، والمدينة.
الاستشاريون في العالم يتوجّهون فعلياً اليوم إلى السعودية حاملين أجهزة الكومبيوتر الشخصية، وعليها فانتازيا من المشروعات الهادفة إلى التحوّل "من دبي هي الحلم إلى 'الخطّ' هو الحلّ". في هذا السياق، أذكر حواري مع مجموعة من أهمّ المعماريين في العالم وهم يقولون لي: "في الإمارات ودبي لا يقولون لا، وأيّ هزل يُمكنك بناؤه طالما يحقّق هدف الإبهار البصري". ويُدهشك أن هذا الهزل يُحتفى به طالما يجعل العالم يتحدّث عن دبي وأبوظبي. إحدى أهم شركات التصميم في العالم قدّمت في دبي بُرجاً على شكل مواطن إماراتي يرتدي الثوب الأبيض والعقال ويتوجّه برأسه ناحية القِبلة، وتم تفسيره على أنه المَبنى العاكس للهوية الإماراتية الخليجية الإسلامية، وتمّت الموافقة على المشروع، ثم حدثت الأزمة المالية، وتوقّف لحسن الحظ.
أرجوكم تذكروني بعد عشرين عاماً، وتذكّروا نفس الخبراء والاستشاريين المتمتّعين الآن بتدفّقاتٍ لا نهائية من الريالات السعودية وهم يقولون: "مدهش جدّاً مشروع 'الخطّ'، ولكن يبدو أنّه لا يمكن إكماله، وقد فشل. دعونا نغادر الآن". خاصّة مع قرب المعاناة المالية التي ستتعرّض لها السعودية، وباقي دول الخليج، بعد الاستغناء الكامل عن النفط كمورد عالمي للطاقة.
إذن، نحن أمام مرحلة جديدة تُستنزف فيها أموال الشعب السعودي في تجاربَ دعائية تسويقية؛ تُثري تشكيلات استشارية أجنبية تملك خبرة تاريخية في التلاعُب بعقول الحكّام العرب الأغنياء، وإقناعهم أنّ هذا المشروع هو أمَلُك الوحيد لتقف منفرداً على المسرح العالمي، لتتلقّى تهنئة العالم (ثم سخريته لاحقاً).
تجارب معمارية ساذجة وبعضها جرائم بحقّ المجتمع والمدينة
مشروع "الخطّ" هو مشروع يجبُ أن نتوقّف فيه عن الانسياق للحملات الدعائية الحماسية، ونحتاج إلى توخّي الحذر. فهو إعادة لسردية "مغالطة مدينة مصدر". إنّه مظهر من مظاهر كيف أنّ قادة دول الخليج الثريّة يبحثون عن الأوهام والفانتازيا المعماريّة والعمرانية، ومن المفارقات أنهم يجدون مستشارين للقيام بهذه المهمّة، على الرغم ممّا يدّعونه بخصوص حتمية التنمية المستدامة والاستعداد لحقبات ما بعد الكربون.
وكما رُوّج لمدينة "مصدر" على أنها المدينة الفاضلة الحضَرية العالمية، وفشلت، فإن "الخطّ" محكوم عليه بالفشل أيضاً. هناك دائماً خطٌّ غير واضح في التنمية العمرانية المعاصرة، ففي مدن الخليج يُفصَل بين الإبداع الحقيقي والصور الفارغة لعمرانٍ يُحقّق مخيالاً فانتازياً فقط. ولذا يبدو أننا ننتقل فحسب من حالة "دَبْيَية" إلى حالة "سَعْودة" المدينة الخليجية والعربية، فهل نستفيق من هذه التداعيات أم نندفع إلى حقبة جديدة بطلها "الخطّ".
* معماري وأكاديمي من مصر