تستند مؤلفات الجغرافيين العباسيين عن الإمبراطورية البيزنطية، في غالبيتها، إلى مؤلفات الكاتب والمحدّث مسلم بن أبي مسلم الجرمي الطرسوسي، نسبة إلى طرسوس إحدى مدن كيليكية. فهذا المؤلف الذي فُقدت كتبه وحفظ بعض الجغرافيين نبذاً قليلة منها، كابن خرداذبة وقدامة بن جعفر والجيهاني والمسعودي وغيرهم، عاش قرابة أربعين عاماً في بلاد الروم أسيراً، أو مقيَّد الحركة، ممنوعاً عليه العودة إلى ديار المسلمين.
ومن المؤكد أن عملية أسره وقعت قبل صائفة عام 188 هجرية/ 804 ميلادية التي قادها الخليفة هارون الرشيد، إذ بعد هذه الصائفة (الغزوة الصيفية) اتفق الخليفة الرشيد والإمبراطور البيزنطي نقفور الأول، على البدء بعمليات تبادل الأسرى، فيما كانت تسمى "الأفدية"، والتي عددها المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف"، وأتى على ذكر مسلم بن مسلم الجرمي في الفداء الثالث بوساطة خاقان الخزر الذي كانت تربطه بالروم علاقة مصاهرة، عند نهر اللامس الذي يسمى الآن نهر غوكسو قرب مدينة مرسين التركية، وهو الحد المتفق عليه منذ الأمويين بين بلاد الروم وبلاد الخلافة الإسلامية.
يقول المسعودي: "الفداء الثالث: فداء خاقان في خلافة الواثق بالله، في المحرم سنة 231 (الموافق سبتمبر 845)، وفيه خرج مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وكان ذا محل في الثغور، ومعرفة بأهل الروم وأرضها، وله مصنفات في أخبار الروم وملوكهم، وذوي المراتب منهم، وبلادهم وطرقها ومسالكها، وأوقات الغزو إليها، والغارات عليها، ومن جاورهم من الممالك من برجان، والإبر، والبرغر، والصقالبة، والخزر وغيرهم، وحضر هذا الفداء مع خاقان رجل يُكنى أبا رملة من قبل أحمد بن أبي داود، قاضي القضاة، يمتحن الأسارى وقت المفاداة، فمن قال منهم بخلق التّلاوة ونفى الرؤية فودي به وأحسن إليه، ومن أبى تُرك بأرض الروم، فاختار جماعة من الأسارى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك، وأبى مسلم الانقياد إلى ذلك فنالته محن ومهانة إلى أن تخلَّص".
ومن قول المسعودي نستنتج أن الجرمي كان خصماً للمعتزلة القائلين بخلق القرآن، ويومها كان مذهب المعتزلة هو المذهب الرسمي، وبسبب موقفه ذاك، جرى استثناؤه من الافتداءات السابقة، وقد نقل أبو محمد عبد الغني المقدسي في كتابه "المحنة على إمام أهل السنة أحمد بن حنبل" عن مسلم الجرمي قوله: "كنت أسيراً في بلاد الروم أيام المحنة، فبعث إلي ملك الروم ودعاني، فقال: أيش يقول صاحبكم (يقصد الخليفة العباسي)؟ قلت: يزعم أن التوراة والإنجيل والقرآن مخلوق. فقال ملك الروم: كذب، هذا كله كلام الله عز وجل غير مخلوق". ويبدو أن الجرمي كان يتقن اليونانية جيداً بدليل ترجمته إلى العربية أسماء الكثير من الأماكن التي يعددها، إضافة إلى حديثه المباشر مع ملك الروم ثيوفيل.
أعمال الروم
وينقل الجغرافي ابن خرداذبة عن الجَرْمي قوله: "إن أعمال الروم التي يوليها الملك عماله أربعة عشر عملاً، منها خلف الخليج ثلاثة أعمال، أولها: عمل طافلا، وهو بلد القسطنطينية وحدّه من المشرق الخليج إلى بحر الشأم، ومن المغرب السور المبني من بحر الخزر (المقصود البحر الأسود) إلى بحر الشأم، وطوله مسيرة أربعة أيام، وهو من قسطنطينية على مسيرة يومين، ومن الجنوب بحر الشأم ومن الشمال بحر الخزر، والعمل الثاني خلف هذا العمل هو عمل تَراقيَة، وحدّه من المشرق السور، ومن الجنوب عمل مقدونية، ومن المغرب بلاد بُرجان، ومن الشمال بحر الخزر، وطوله مسيرة خمسة عشر يوماً، وعرضه مسيرة ثلاثة أيام، وفيه عشرة حصون، والعمل الثالث عمل مقدونية، وحدّه من المشرق السور، ومما يلي الجنوب بحر الشأم، ومن المغرب بلاد الصقالبة، ومن الشمال بُرجان، وطوله مسيرة خمسة عشر يوماً، وعرضه مسيرة خمسة أيام وفيه ثلاثة حصون". ويضيف الجرمي: "دون الخليج أحد عشر عملاً، عمل أفلاجونِيَة، وفيه خمسة حصون، عمل الأُفطيماطي، وتفسيره الأذن والعين، وفيه ثلاثة حصون، ومدينة نُقموديّة وهي اليوم خراب، وعمل الأُبسيق، وفيه مدينة نيقية، ولها عشرة حصون، والبحر من نيقية على ثمانية أميال، ولها بحيرة عذبة تكون اثني عشر ميلاً طولاً، وفي البحيرة ثلاثة أجبل، ومن المدينة إلى البحيرة باب صغير، فإذا دهمهم خوف أخرجوا الذّراري من الحصن إلى الزواريق في البحيرة، فحملوهم وألحقوهم بالجبال التي في البحيرة، وعمل ترْقسيس، وفيه من الحصون أفسيس في رستاق الأواسي، وهي مدينة أصحاب الكهف، وأربعة حصون، وقد قرئ في مسجدهم كتاب بالعربية بدخول مَسْلمة (بن عبد الملك) بلاد الروم".
عند أهل الكهف
وحول قصة أهل الكهف المشهورة في التراثين السرياني والإسلامي يقول الجرمي: "فأما أصحاب الرقيم، فبخَرمة رستاق بين عمورية ونيقية، وكان الواثق بالله وجّه محمد بن موسى المنجّم إلى بلاد الروم، لينظر إلى أصحاب الرقيم، وكتب إلى عظيم الروم بتوجيه من يوقفه عليهم، فحدّثني محمد بن موسى أن عظيم الروم وجّه معه من صار به إلى قُرّة، ثم سار أربع مراحل، وإذا جبيلٌ قطر أسفله أقل من ألف ذراع، وله سرب من وجه الأرض ينفذ إلى الموضع الذي فيه أصحاب الرقيم، قال: فبدأنا بصعود الجبل إلى ذروته فإذا بئر محفورة لها سعة تبيّنّا الماء في قعرها، ثم نزلنا إلى باب السرب، فمشينا فيه مقدار ثلاثمائة خطوة، فصرنا إلى الموضع الذي أشرفنا عليه فإذا رواق في الجبل على أساطين منقورة، وفيه عدّة أبيات منها بيت مرتفع العتبة مقدار قامة عليه باب حجر منقور، فيه الموتى ورجل موكّل بحفظهم، ومعه خصيان روقة، وإذا هو يحيد عن أن نراهم أو نفتشهم، ويزعم أنه لا يأمن أن يصيب من التمس ذلك آفة، يريد التمويه ليدوم كسبه بهم، فقلت له دعني أنظر إليهم وأنت بريء، فصعدت بشمعة غليظة مع غلامي فنظرت إليهم في مسوح تتفرّك في اليد، وإذا أجسادهم مطليّة بالصبر والمرّ والكافور ليحفظها، وإذا جلودهم لاصقة بعظامهم، غير أني أمررت يدي على صدر أحدهم فوجدت خشونة شعره، وقوّة نباته. وأحضر الموكّل بهم طعاماً وسألنا الغداء عنده، فلما ذقنا طعامه أنكرنا أنفسنا، فتهوّعنا، وإنما أراد أن يقتلنا أو يُغصَّنا، فيصح له ما كان يدّعيه عند ملك الروم من أنهم أصحاب الرقيم، فقلنا له إنما ظننَّا أنك ترينا موتى يشبهون الأحياء وليس هؤلاء كذلك".
حصون وقلاع
ويتابع الجرمي تعداد أعمال بلاد الروم في زمنه: "وعمل الناطُلُوس، وتفسيره المشرق، وهو أكبر أعمال الروم، وفيه مدينة عمّورية، وعدد بروجها أربعة وأربعون برجاً، ومن الحصون العلَمَين، ومرج الشحم، وبُرغوث، والمسكنين، وثلاثون حصناً، والثن والمسبطلين، وعمل خرسيون يلي درب ملطية وفيه من الحصون خرْشَنة وأربعة حصون، وعمل البقلّار وفيه مدينة أنقرة وصَمله وثلاثة عشر حصناً، ويليه عمل الأرمنياق، وفيه من الحصون قُلونِية، وستة عشر حصناً، وعمل خَلديَة، وحدُّه أرمينية، وفيه ستة حصون، وعمل سلوقية من ناحية بحر الشأم إلى طرسوس، واللّامس، ويتولاه عامل الدروب، وفيه من الحصون سلوقية وعشرة حصون، وعمل القبادق، وحدّه جبال طرسوس وأذَنَة والمصّيصة، وفيه من الحصون قرّة، وحصين، وأنطيغوا، والأجرب، وذو الكلاع، وهو جبل عليه قلاع فسمّته العرب ذا القلاع، ثم انحرف الاسم إلى ذي الكلاع، واسمها جُسْطَرون، وتأويلها مناغية الكوكب، وأربعة عشر حصناً، ومن المطامير ماجدة، وبلنسة وملندسة، وقونية، وملقوبية، وبدالة، وبارنوا، وسالمون، وتفسير ملقوبية مقطع الأرحاء تقطع حجارة الأرحاء من جبالها".
بطارقة الروم
ويحدثنا الجرمي عن بطارقة الروم الاثني عشر فيقول: "اثنا عشر بطريقاً لا ينقصون ولا يزيدون، ستة منهم مقيمون بالقسطنطينية بحضرة الطاغية، وستة في الأعمال: بطريق عمورية، بطريق أنقرة، بطريق الأرمنياق، بطريق تراقية وهي خلف قسطنطينية مما يلي برجان، وبطريق سقلية، وهي جزيرة عظيمة ومملكة واسعة بإزاء إفريقية، وبطريق سردانية وهو صاحب جزائر البحر كلها".
القسطنطينية
ويتابع: "مدينة الروم العظمى التي هي حرزهم، قسطنطينية، وتسمى البذروم، والملك أكبر الروم في أنفسهم وأعزه عليهم، وليس الملك فيهم وراثة، ولا كتاب متبع، إنما هو غلبة، وقد ملكهم رجال ونساء، وملكهم يدعى باسيلي (الملك باليونانية) ولباسه ألفرفير (البورفيري أي الأرجوان)، صنف من الحرير فيه لمع إلى السواد قليلاً، لا يلبس ألفرفير والخف الأحمر إلا الملك، ومن تعرض لذلك قتل ومن ذكر له الملك لبس خفّاً أحمر وخفّاً أسود، ولهذه المدينة البذروم أربعمائة رجل لباسهم الطيالسة الخضر المزوّرة بالذهب، وهم لمشورة الملك والقيام بأمره وأمر البطارقة، منهم من يتولّى أمر القسطنطينية وحجابة الملك، وهؤلاء يسلّون السيف على ولد إسماعيل (المقصود العرب) ويرون القتل، وربما ضربوا الأسارى بالفؤوس والحجارة وألقوهم في الفرن وهو مستوقد نار، والخيل المقيمة على باب الملك أربعة آلاف فارس وأربعة آلاف راجل".
معسكر الملك
ويصف لنا الجرمي معسكر ملك الروم: "لمعسكر الملك مقيماً كان أو راحلاً أربعة بنود، عليها أربعة بطارقة في الخيل، كتيبة كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً، ستة آلاف مرتزق، وستة آلاف شاجرد، فإن خرج الملك نحو بلاد العرب عسكر بدَروليَة، على أربعة أيام من قسطنطينية وهو مجمع العرب والروم، وهو مرج أفيح أخضر فيه نهر صافٍ عرضه نحو من ثلاثين ذراعاً يخرج من عيون ويصب في صاغري البحر الأخضر، ويصب الصاغري في البحر الأعظم في قفا قسطنطينية، وفي ذلك حمّات ماءٍ سخن عذب، وقد وضعت عليها الملوك البناء والأزاج يسع البيت ألف إنسان، وهي سبعة أبيات فيها من الماء إلى صدر الإنسان يجري فيصير فضوله إلى بحيرة".
ويستطرد رحّالتنا: "يخرج الخارج من درب السلامة، فينزل العلَّيق ثم ينزل الجوزات، ثم الجردقوب، ثم حصن الصقالبة، ثم الرهوة، ثم البذَندون، وعين البذَندون التي مات عليها المأمون تدعى راقة، تخرج من مثل الباب العظيم مملوءة ماءً بارداً لا يطاق من برده لم أر عيناً أعظم منها، ثم تسلك منها في ألفرجَين تخوض النهر نحواً من عشرين مرّة حتى تأتي الحمّة، وتجوز عقبة ليّنة ثم تظهر لك لؤلؤة، ثم تسلك إلى قلعة، ثم تسلك إلى ولية، وهي بحيرة المسكنين، ثم تأتي هوتة الرقيم، وهي خسف في الأرض يكون مقدار مائتي ذراع في مائتي ذراع مشقوقة، في وسطها بحيرة حولها أشجار، وحول الأشجار في أصل الجبل بيوت ومساكن، وهي مخرج أكثر من مائة رجل، ولها باب في الجبل تحت الأرض يخرجك إلى الوادي، والناس حولها ينظرون إلى جوفها مثل القصعة، وأخرجوا إلى علي بن يحيى جرَّة من ماء البحيرة، وخبز فرنيّة، وجبنة هديّة وقالوا: نحن ضعفى الروم لا نقاتل إنما نخدم هؤلاء القوم الذين جعلهم الله هاهنا، والقوم في مغارة يُصعد إليها من أرض الهوتة بسلّم لعلَّه أن يكون ثمانية أذرع ونحو ذلك، فإذا هم ثلاثة عشر رجلاً وفيهم غلام أمرد، عليهم جباب صوف وأكيسة صوف، وعليهم خفاف ونعال، فتناولت شعرات في جبهة أحدهم فمددتها فما تبعني منها شيء".
الضرائب والإدارة
وحول الضرائب المعتمدة في بلاد الروم يقول الجرمي: "خراج الروم مساحة على كل مائتي مدى ثلاثة دنانير في كل سنة، والمدى ثلاثة مكاكيك، ويأخذ عشر الغلات، فيصير في الأهراء للجيوش، ويأخذ من اليهود والمجوس ديناراً في السنة، ويؤخذ من كل بيت يوقد فيه نار في السنة ستة دراهم، وثمار الروم تدرك في السهل والجبل في أيلول".
ويفصّل في الحديث عن النظام الإداري في تلك البلاد فيقول: "ديوانه مرسوم على مائة ألف وعشرين ألف رجل، على كل عشرة آلاف رجل بطريق، مع كل بطريق طُرماخان، كل طرماخ على خمسة آلاف رجل، ومع كل طرماخ خمسة طُرُنجارين، كل طرنجار على ألف رجل، ومع كل طرنجار خمسة قمامسة، كل قومس على مائتين، ومع كل قومس خمسة قُنطرخين، كل قنطرخ على أربعين، مع كل قنطرخ أربعة داقَرخين، كل داقرخ على عشرة رجال، والعطا (الراتب) مختلف، أكثره أربعون رطلاً ذهباً، إلى ستة وثلاثين رطلاً، إلى أربعة وعشرين رطلاً، إلى اثني عشر، إلى ستة أرطال إلى رطل، وأعطيات الجند ما بين ثمانية عشر ديناراً إلى اثني عشر ديناراً، هذا مرسوم لهم في كل سنة، وإنما يعطون ذلك في كل ثلاث سنين، وربما كان في أربع سنين، وربما كان في خمس سنين، وربما كان في ست سنين عطاءً واحداً، وأكبر البطارقة خليفة الملك ووزيره ثم اللُّغثيط صاحب ديوان الخراج وصاحب عرض الكتب، والحاجب، وصاحب ديوان البريد، ثم القاضي ثم صاحب الحرس ثم المرقّب".
جزر الروم
ويعدد الجرمي أهم الجزر التابعة للروم فيقول: "جزائر الروم المشهورة قبرس، ودورها اثنا عشر يوماً، وجزيرة إقريطِش (كريت) ودورها خمسة عشر يوماً، وجزيرة الذهب وبها كان يُخصى الخدم، وجزيرة الفضّة، وجزيرة سقلّية ودورها خمسة عشر يوماً". وحول أعطيات الرؤساء يقول: "ما بين ثلاثة أرطال ذهب إلى رطل، والرطل تسعون مثقالاً، وإنما يقبض الروم في ديوانها الغلمان المردان فيأخذ الغلام في السنة الأولى ديناراً وفي الثانية دينارين، وفي الثالثة ثلاثة دنانير حتى يتم اثنتي عشرة سنة فيأخذ اثني عشر ديناراً. وبريد الروم براذين لطاف محذَّفة الأذناب، خفاف وحلبتهم غرّة آذار، يُجري الملك خيله وخيل أمرائه بباب الذهب، وهي خيل بين فرسين عجلة عليها الغلمان الوصفاء قيام بالسماط. وليس للروم في عساكرهم أسواق إنما يحمل الرجل من منزله كعكه وزيته وخمره وجبنه".