مستشفى عند جبل الزيتون

04 نوفمبر 2021
مشهد طبيعي من القدس يظهر فيه "جبل الزيتون" (Getty)
+ الخط -

الاثنين

ألاحظ: مليكتا أشجار القدس هما شجرة الزيتون وشجرة الصنوبر. ما أكثر شيوعهما في هذه البلاد، وما أندر الأشجار الأُخرى! شجرتان عتيقتان، ويصل عمر بعضهما إلى مئات السنوات. أمّا الطائر الأكثر شيوعاً ههنا فهو الغراب. أينما حللتَ تجده. وهو غير نافر من البشر، كما هو الحال في غزّة مثلاً، إذ يهبط قريباً منهم، وينكش في التربة آمناً باحثاً عن رزقه. ولعلّ ثمّة علاقة صميمة بينه وبين شجر الصنوبر، فحيثما كان هذا النوع من الشجر، وُجدَ هو. إنه يأكل من بذور الشجرة حين تتساقط على الأرض. يفتح الثمرة القوية بمنقاره الطويل، ويأكل البذور الصغيرة الصلبة.

كما ألاحظ كذلك، شيوع طائر الدوري هنا. ولعلّي لم أر سواهما من الطيور. لكن الدوري في القدس ليس كثيراً، كما هو الحال في غزّة. فغزّة بساحلها الدافئ، ربما تناسبه أكثر.

فوق أن "إسرائيل" قاتلة البشر، هي قاتلة الطبيعة بامتياز

القدس عموماً فقيرة بالأشجار والطيور. وربّما يكون السبب، اعتداء "إسرائيل" على الطبيعة، وتحويل مساحات الحقول الخضراء إلى مستوطنات صمّاء، ليست أكثر من مجمّع ضخم للإسمنت.

لقد فعلت نفس الصنيع في غزّة. فبعدما كنت أعدّ أكثر من ثلاثين نوعاً من الطيور، في أحراش مدينتي خان يونس، لم نعد نرى، بعد مستوطناتهم، سوى سبعة أو عشرة أنواع.

"إسرائيل"، فوق أنها قاتلة البشر، هي قاتلة الحجر والطير والطبيعة بامتياز. العمى!


■ ■ ■


الثلاثاء

لا أعرف إلى الآن كيفية التعامل مع الموبايل. فقط حملته قبل مجيئي للقدس، وذلك للضرورة. أكره هذا الجهاز، من شدّة ما رأيت كيف يبالغ العرب في سوء استخدامه. ثرثرات، ثرثرات! والحال أنها ثرثرات بمصاري. حتى فقراؤهم، يقطعون اللقمة عن أفواههم، ليشتروا كرتاً ويثرثرون.

وأنا، ما إن أسمع أحدهم أو إحداهنّ [وبالذات إحداهن] تثرثر، حتى يُتعبني قولوني!

ومع هذا، فقدّ جرّ عليّ استخدامي لهذا الجهاز الكثير من الحرج. فأصدقائي يتّصلون، ولأنّني لا أحفظ أرقامهم، لا أعرف كيف أعود لهم. فغالباً ما لا أحمله، بل أدعه في الغرفة وأخرج لمشاويري.

اليوم مثلاً كلّمت الدكتور وائل أبو عرفة، للاطمئنان عليه، فأخبرني أنه اتصل بي مرّات، قبل هذه المكالمة.

شعرت بالحرج، وشرحت له الحال. إنما الحرج الأكبر، هو عندما يطلب أحد الأصدقاء أو المعارف رقمي. فأنا إلى الآن وإلى الأبد، لا أعرف ولن أعرف رقمي! فما بيني وبين الأرقام أسوأ ممّا بين أصحاب الكار الواحد.

تُرى أية أفكار تُراودهم، وهم مصلوبون فوق الأسرّة؟

قديماً، ذات لقاء مع المخابرات العسكرية، سألني الضابط الإسرائيلي سؤاله الروتيني، رقم هويتك ورقم منزلك؟ قلت هما لديك، في الهوية، لا أعرف. فضربني كفّاً على خدي! وأصرّ، فأصررت، وكنتُ صادقاً، فتحوّل الكفّ إلى ضربات وركلات، وباثنتي عشرة يداً ورجْلاً، لا أربعة!

وبعد أن هدأ وهدأت، وغادر المجنّدان المعديان، قلت له: لو سألتني هذا السؤال بعد أربعين سنة، فإنّ جوابي لن يتغيّر: لا أعرف!

لم يفهم الضابط، ويا ليتني أراه لأخبره الآن بأنني، بعد، لم أعرف. ليس فحسب رقم هويتي ورقم بيتي، وإنما أرقام كل شيء: من بطاقة مرض السكر، حتى رقم الوظيفة ورقم حساب البنك، وانتهاءً بهذا الرقم الجديد الفظيع: رقم الهاتف النقال!
مَن يطلب مني الرقم، أقول له سجّل رقم هاتفك على جهازي، ثم رِنّ على جهازك!

صديقي نجوان، مستاء ومستغرب من هذا الجهل التكنولوجي المريع، ويقول لي: كيف ستتدبّر أمورك فيما لو نجحتَ وهاجرت للنرويج؟ حينها يا عزيزي نجوان، سيحلّها ألفُ حَلّال. إنما قُل لي يا رجل: وينك إنتَ؟ والله طالت غيبتك في الجزائر...


■ ■ ■


أفتح إيميلي بعد انتصاف الليل: رسائل من أحمد أبو مطر وفرج بيرقدار وإيلانة ويسلي. رسائل تحتاج إلى وقت وتفكير للردّ عليها، بما تستحقه. إنما لديّ سائحة لِتوانية عجوز، تنتظر على الكرسي في الحجرة، وليس من الذوق، تركها تنتظر طويلاً. رغم أنهم، أقصد السياح الأجانب، وفي أغلب المرّات، لا يأبهون لجلوسي وانتظاري الدور. فمنذ تعطّل جهاز الكمبيوتر الثاني، وصار لنا جهاز واحد، ثمّة مشكلة انتظار على الجهاز. أقرأ الرسائل بسرعة، وأؤجّل الرد لحين فسحة.


■ ■ ■


الثانية صباحاً. الغرف مطفأة الأنوار. لا نأمة. لكنّني واثق بأنّني لو مررت عليهم [كل واحد على حدة، في غرفته] لوجدت أغلبهم مستيقظاً. فليس من الصعب العثور لديهم كلّهم على هذه العلامة أو الخصيصة الفارقة: الأرق.

إنّ مرضى السرطان لا ينامون. فالأرق يلازمهم، حتى صار "متلازمتهم" بالخصوص. مَن ينامون فقط هم مرافقوهم أو بعضهم. أمّا هم، فيا ويلي! مَن لا يستطيع المكوث في السرير، عن زهق أو سأم، ينزل إلى الصالة تحت، وينام على الكرسي الجلد. يظل وحيداً بلا أنيس أو محادثة، ذلك أنّ مستخدم الفندق في نوبته الليلية يكون قد أغلق الباب الخارجي، وتدبّر حاله، فأغفى في المخزن الملحق بغرفة الكمبيوتر أو نام.

تُرى أية أفكار تُراودهم، وهم مصلوبون فوق الأسرّة! ليس مَن سمع كمن شاهد. ليس مَن قرأ كمن عاش. إنهم وحدهم يواجهون موتهم الشخصيّ. وحدهم يُقلّبونه على جميع الأوجه. وغاية ما هنالك، فيما لو كنت نائماً معهم في الغرفة ذاتها، أن تسمعهم يتنهّدون، بين الساعة والساعة. وأنا، انتبهت مرة لهذا الموضوع، وأحسست بالحدس والكيمياء الغامضة، أنّ أخي لا يريدني حتى أن أسمع تنهيدته. لذا صرت أتناوم بعدها بصرامة وانضباط، حتى أخدعه، فيظنّني نائماً، وحينها يأخذ راحته في قيام الليل أو التنهّد.

لا ينامون.

وفي الصبح، من النجمة، يبكّرون للمستشفى ويحجزون الدور. مع أن جلساتهم لا تبدأ قبيل العاشرة أو الحادية عشرة. بل إنّ بعضهم لا يأخذها قبل الثانية ظهراً.

يندهش دكتورهم المختصّ، على هذا التبكير المبالغ فيه، فهم يسبقون مرضى الضفّة والقدس، وكل هذا على إيش؟

الدكتور لا يعرف. أنا أعرف، لأنني سمعت ورأيت، حتى وأنا متناوم.

لا ينامون!


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنص حول تجربته في عام 2009

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون