مرايا الكتابة والكينونة

11 سبتمبر 2023
مقطع من لوحة "خلق الطيور" لـ ريميدويس فار
+ الخط -

اليوم كثيراً ما تقرأ نصوصاً شعريّة حديثة هي غيومٌ تائهة، ولكن ليس لها جمال الغيوم، وإنّما تيهانها. نصوصٌ هي تحبير ورقٍ وليست كتابة. ثمّة كلامٌ كثيرٌ عن قصيدة النثر، كما لو أنَّ الشعر يكمن في شكلِ القصيدة. وليس في ذاك المكان الذي لا نراه، والذي نحسّه بعمق... لأنَّ الشعر هو مرور الروح في النص أيّاً كان شكل هذا النص. 

ولا ننسى أنَّ أبرز شعراء الحداثة في الغرب، منذ أن ابتدع شارل بودلير قصيدة النثر، كتبوا الشعر الموزون المقفّى من رامبو إلى جون بيير لومير J. P. Lemaire وليدي داتاس Lydie Dattas.  معظم شعر النمساوي راينر ماريا ريلكه، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس وغيرهما الكثير موزونٌ مقفّى. وحتى شعر الفرنسي سان جون بيرس النثري تتخلّله إيقاعات الوزن السكندري الذي يقابل البحر الطويل لدى العرب. وكان بورخيس، حسب رواية الشاعر الفرنسي من أصل هنغاري لوران غسبار، لا يحبُّ الترجمات النثرية لشعره ويفضّل عليها الترجمات الأولى التي تعتمد الوزن.

أقول هذا لأنَّ قصيدة النثر تحوّلت لدى كثيرٍ من الشعراء إلى شعار وأيديولوجيا وفرصة للّجاج والمماحكة. ونسوا أنَّ الكتابة ليست تحبير ورق، بل مغامرة كيانية. مرآة لذاتك. 

ثمة توازٍ بين آليات التحليل النفسي ومسارات الكتابة

وكما تقول الكاتبة الأميركية جوليا كاميرون "أن تجرأ أن تكتب هو جرأة أن تكون. والناس تخاف من أن تكون". تخاف لأنّه في ممارسة الكتابة تتعرّف على ذاتك العميقة، على أناك الحقيقية، على ذاك الطفل الذي أضعته في الطريق، في لحظة ما من حياتك، ولا تدري، كما يقول أحد المفكرين، متى وأين أضعته. ولأنّها مغامرة فهي تتطلّب شجاعة. 

وتجربة الكتابة في هذا شبيهة بدور المحلّل النفسي الذي يساعدك على النظر في أعماقك التي تتجنّب النظر إليها. من هنا يكثر الحديث عن الكتابة بوصفها علاجاً. ولا بدَّ من التحلّي بالشجاعة للتعرّف على ذاك الجانب المُظلم من نفسك الذي ظللت حتى تلك اللحظة تتجنب معرفته؛ ظللتَ طوال حياتك، كما يقول علماء النفس، تختلق الأسباب والعلل حتّى لا تراه. وذلك بواسطة آليات الدفاع النفسي؛ تلك المتاريس التي ظللت تتخفّى وراءها.

الأمر، ومن بعض الوجوه، شبيه بالكتابة، وحتّى لا يمضي الإنسان إلى النص الحقيقي، إلى ذاته الحقيقية، تراه يتخفّى وراء التصنّع اللغوي، والبلاغة الخاوية، والإكثار من الثرثرة عن شكل القصيدة، وليس عن روحها. إنّها لحظة التمنّع... 

تحوّلت قصيدة النثر لدى شعراء كُثر إلى شعار وأيديولوجيا

هناك توازٍ بين آليات التحليل النفسي والمسارات التي تتخذها الكتابة، وخاصة كتابة السورياليين الأوتوماتيكية التي هي إبحارٌ بلا بوصلة في أعماق اللاوعي. وفي حياة الكتّاب ثمّة لحظتان: الأولى، تتمثّل في الخضوع للقراءات واستعارة صوت الآخرين؛ وهي اللحظة التي لا يجرؤ فيها الروائي أو الشاعر أن يقتل الأب، وأن يكون هو. واللحظة الثانية عندما يظفر بصوته الحقيقي بعد عنت ومكابدة ومعاناة؛ وهي اللحظة التي يقول فيها ها هو ذا أنا، وهذه بصمتي. 

ولكن ثمّة فوارق بين تمشّي التحليل النفسي الذي هو تكشّف عسير، والكتابة. في حالة الكتابة ترانا نمضي سعداء إلى مجاهل الذات العميقة بعد مكابدة الخوف وتجاوزه. هكذا تصير الكتابة تحرّراً إضافة إلى أنّها شجاعة وعلاج. 


* شاعر ومترجم تونسي مُقيم في أمستردام
 

المساهمون