محمد مهدي الجواهري... صورة واقعية عن العراق

27 يوليو 2022
من مدخل بيت الجواهري في بغداد (العربي الجديد)
+ الخط -

في فصول سيرة قاربت المئة عام إلّا قليلاً، لا تمكن مراجعة أثر الشاعر ومكانته من خلال انتقاء قصائد تفيض عشقاً وتمجيداً لوطنٍ تمثّل في صورة "الجنّة"، كما فرضتها مناخات المنفى والاغتراب التي عاشها محمد مهدي الجواهري (النجف 1899 – دمشق 1997) من دون فهم صورة واقعية عن العراق راكمها في مدوّنته حرفاً حرفاً.

خرج الشاعر على جماعته شاهراً رفضَه الذي تأسّس على وعيٍ ألزم ابن عائلةٍ تحظى بمكانة دينية واجتماعية العملَ في سنٍّ مبكّرةٍ لكسب قوت يومه، فانحاز إلى الفقراء والمسحوقين منذ خطّ كلماتِه الأُولى، واستوعب معنى أن يكون معبّراً عن لسان حالهم وأحلامهم في أوطانٍ قد تؤول إلى خرابٍ إذا لم تتأسَّس على العدل والحقّ.

وأدرك الجواهري الذي تمرّ، اليوم، خمسة وعشرون عاماً على رحيله، أن ثروات بلاده منهوبةٌ من فئة تحالفت مع الاستعمار البريطاني، فكتَب القصيدة لوطن حرّ ومستقلّ وليس لخريطة الكيان السياسي التي رسمتها حدود سايكس - بيكو، وأعلت عليه نخبةً حاكمة تحقق مصالح الاستعمار أكثر من تحقيقها المصالحَ الوطنية.

ورغم قربه من السلطة في مراحل مختلفة من حياته ومديحه لرموزها أكثر من مرة، إلا أنه لم يتخلّ يوماً عن انتقاده لأخطائها وانحرافاتها، ما دفعه إلى مغادرة العراق نهائياً سنة 1980 ولم تثنه الوساطات التي أكّدت على خصوصية منزلته التي ترتفع عن غيرها من الكتّاب المعارضين.

غاية الشعر لدى الجواهري كرّستها جملةُ مواقف تطوّرت في الكتابة والسياسة، لتصوغ شخصيته المناوئة للظلم والاحتلال والاستبداد، وقدّم في رحلته الطويلة تضحيات عديدة بدءاً من السجن والطرد من الوظيفة، ومروراً بإغلاق صحف ومطبوعات أنشأها، وانتهاءً بسحب الجنسية والنفيّ، ولم ير معركته مجزّأة يوماً من الأيام. أما قصائد المديح التي أزجاها للحكّام، ولا سيما خارج وطنه العراق، فهي جزء من تناقضاته أو من فهمه التقليدي لوظيفة الشعر. لكن حتى المديح عند الجواهري ليس معنى نهائياً بل هو حالة أو صورة شعرية يمكن الانقلاب عليها إذا ما انتفت دوافعها.

تجاوزَ مجايليه إلى حساسية شعرية وبنية فنية أكثر نضجاً

هكذا تُقرأ قناعته ومبادئه التي لا يمكن اختزالها في بيت شعره "أنا العِراقُ لساني قلبهُ ودمي/ فراتُهُ وكياني منهُ أشطارُ" الذي قرّر مجلس الوزراء العراقي، وضعه في أعلى المخاطبات الرسمية لجميع الوزارات والهيئات الحكومية، بهدف إحياء ذكرى رحيل "الرمز الوطني، شاعر العراق والعرب"، بحسب توجيه صادر عنه الشهر الجاري. وهو بالطبع استعمال موضع تأمل في حال كحال السلطة في العراق اليوم.

في التساؤل عن معنى "الوطنية" كما تجسِّدُها سلطةٌ خاضعة لإرادات الخارج، ومحاصصة الطوائف في منظومة قائمة على الاستبداد والفساد، تجدر العودة إلى مقالة نشرها الباحث الراحل هادي العلوي في كتاب بعنوان "محمد مهدي الجواهري.. دراسات نقدية" عام 1969، بمشاركة جبرا إبراهيم جبرا، وفوزي كريم، وإبراهيم السامرائي، وداود سلوم وآخرين.

يُمسك العلوي بالسمات الأساسية لتجربة صاحب قصيدة "بريد الغربة" ممثّلة بنزْع الأيديولوجيا والتنظير السياسي من الشعر، متجاوزاً في ذلك الزهاوي والرصافي، إلى حساسية شعرية وبُنية فنية أكثر نضجاً، ولم يصطدم مع المعتقدات الدينية كما فعل كلاهما لكنه في الوقت نفسه لم يهادن رجال الدين الذين وقفوا ضدّ تعليم البنات أو استغلّوا حاجة الفقراء أو تزلّفوا للسلطة.

ويلفت إلى أن مقاربة الجواهري كانت كليّة لمفهوم العدالة لدى الدولة التي لا تحتكر مصالح طبقة محدّدة، إنما تمثّل مصالح الأكثرية الكادحة، ورأى في مقالات الجواهري ونصوصه أن تثوير الجماهير لا يكون باتجاه قضايا جزئية شغلت بال النخب المتغربة والليبرالية في عصره، بل في إنهاء أجهزة الحكم التابعة للاستعمار والفئات الإقطاعية والبرجوازية المرتبطة به والتي تفرض مظاهر التأخّر والجهل.

ويوضّح العلوي إلى أن أبا فرات لم يتبنّ خطاب المثقفين العراقيين والعرب بعد الحرب العالمية الثانية في محاكاة نظرائهم في الغرب حول قلق الإنسان المعاصر وأزماته الوجودية، بل نسج خطاباً واقعياً حول فهمه للصراع الاجتماعي والسياسي في العراق، ليجدّد في معنى القصيدة التي لم تتخلّ عن وظيفة النقد للسلطة والمجتمع في التراث العربي.

في فصول تلك السيرة الممتدّة قرابة قرن، استبدّ الحنين والشوق بالجواهري كلّما ابتعد عن وطنه وربما تضاعف شعوره هذا بعد خروجه الأخير من بغداد، ومجّد التراب والنخل ودجلة والفرات ونجومه وأقماره، لكنه لم يصوّرها رموزاً مجرّدة عن وطن لم يطق العيش فيه تحت الاحتلال أو الطغيان أو الاستغلال.

المساهمون