توقّف الآثاري والمؤرّخ الفلسطيني، محمد مرقطن، في محاضرته "لغة القرآن الكريم في ضوء الاكتشافات الأثرية في الجزيرة العربية"، التي ألقاها الإثنين الماضي عبر منصّة "زووم"، عند جملة ملاحظات أساسية حول ما ترفده النقوش من معرفة بالقرآن، ولغة النبي محمد وتكوينها التاريخي الذي نعرفه من خلال الوحي، ومقاربة مصادر التراث العربي بروح نقدية، مؤكّداً أن مدوّنات العرب قبل الإسلام هي المصدر الأساسي لدراسة التكوين التاريخي للغة القرآن وتاريخ العرب.
وأشار في المحاضرة، التي تندرج ضمن سلسلة ويبنار "الإسلام: التاريخ والمجتمع" بتنظيم من "جامعة مونستر" في ألمانيا، إلى ضرورة التعامل مع الجزيرة العربية كوحدة ثقافية ولغوية واحدة كما عرّفها العالم المسلم الحسن الهمداني (893 - 947 م) بأنها تمتدّ من بحر العرب إلى جبال طوروس، مع اشتمالها على وحداث ثقافية متنوّعة مثل الشام والعراق واليمن.
ابتدأ الباحث المتخصّص في لغات وحضارات الشرق القديم حديثه بنقشٍ اكتُشف حديثاً، ونشره آثاريون يمنيون، وهو مكتوب بخطّ الزبور المستخدَم في الكتابات العربية الجنوبية ويعود إلى القرن السادس الميلادي، وفيه البسملة "بسم الله الرحمن الرحيم، رب السموات"، ويُحتمَل أن يكون قبل الإسلام أو في بداياته.
ثم استعرض المدارس الغربية، مفرّقاً بين المدرسة الكلاسيكية التقليدية في دراسة القرآن، والتي ترى أنّ لهجة قريش تمّ رفعها للفصحى، ومن أبرز ممثّليها المستعربة الألمانية أنجليكا نويفرت، التي ركّزت في دراساتها على أنّ القرآن نصّ من العصور القديمة المتأخّرة، وتعدّ هذه المسألة جديدة، قياساً برموز هذه المدرسة الذين لا يعتقدون بأهمية المكتشفات الأثرية في الجزيرة العربية، وبين المدرسة التحريفية التي نشأت منذ السبعينيات، وهي ليست علمية، وتزعم أنّ لغة القرآن مزيج من السريانية - العربية ومن أبرزهم الباحث اللبناني باسمه المستعار "كريستوف لكسنبرغ" والذي لم يستطع أن يبرهن على وجود جملة واحدة سريانية في القرآن.
يعارض اعتبار الفصحى لهجة قريش أو ذات أصل سرياني
وأكّد المحاضر أنَّ لغة القرآن لا يمكن أن تكون لهجة قريش، لأنّ الإخباريّين العرب كتبوا بجميع لهجات القبائل، واقتصارها على لهجة هو تعبير عن تعصّب في التراث الإسلامي، وأنّ الدراسات العربية الحديثة هي اجترار للتراث من دون رؤية نقدية. كما تطرّق إلى مسألة المعرب ولهجات العرب وغريب القرآن التي تتعامل معها مصادر التراث بانفتاح، حيث تشير إلى الألفاظ الأعجمية في القرآن.
وانتقل بعدها إلى نقوش الجزيرة قبل الإسلام بدءاً من الخريطة اللغوية التي تميّز بين العربية الشمالية والعربية الجنوبية مع التقارب الكبير بين معجميّتهما، وهما تنتميان إلى ما يُسمّى "اللغات السامية"، والذي يتحفّظ عليه كما كثير من الباحثين، من دون أن نجد بديلاً له، ويستخدمه من أجل تسهيل عملية البحث، لافتاً إلى مجموعة نقاط ذات صلة بالكتابة والتدوين في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفي مقدّمتها أن مصطلح الجاهلية ليس له علاقة بمسألة المعرفة وهو من اختراع العصر العباسي.
هل العرب كانوا أميّين قبل الإسلام؟ يجيب مرقطن بالنفي إذ كان البدو والحضر يعرفون الكتابة، وقد عُثر على عشرات الآلاف من النقوش تعود إلى فترة ما بين الألف الأول قبل الميلاد وظهور الإسلام، والتي كُتبت على الألواح الحجرية والصخور والبرونز والذهب وورق البردي وعسيب النخل، والأخير استُخدم لكتابة القرآن، وتتحدّث هذه النقوش عن نواحي الحياة كافة، مع ضرورة التمييز بين شمال الجزيرة وبين جنوبها الذي شهد تأسيس ممالك ودول، فتوافرت نصوص قانونية ومعمارية ورسائل وعقود ونصوص أدبية، خلافاً لنصوص الشمال التي تناولت الحياة الخاصة.
ونبّه إلى أنّ أهل الجزيرة استوحوا خطّاً كنعانياً خلال العصر البرونزي المتأخر، والذي اكتُشفت نماذج منه بالقرب من مدينة القدس، واستخدم العرب الجنوبيون أيضاً خط المسند وبرعوا في الكتابة به من الناحية الجمالية، بينما كتب العرب الشماليون بالخط الآرامي، مثلما تبرزه النقوش النبطية التي تطوّرت لاحقاً إلى العربية.
وتناول مرقطن نقوشاً صفائية اكتُشفت في منطقة الحرّة بالأردن، وكتبتها قبائل تعيش بين البداوة والتحضر، وكذلك نقوشاً ثمودية، ومنها نقش عربي قديم مكتوب بإحدى تفرّعاتها وهي الحسماوية، واكتُشف في مدينة مادبا الأردنية، والنقوش الدادانية -اللحيانية في منطقة العلا بالسعودية. وفي شرق الجزيرة، عُثر على نقوش بالخط المسند الإحسائي وبالآرامية، إلى جانب نقوش بخط المسند العُماني في ظفار، وهي متروكة للجيل الجديد من أجل أن يفكّ رموزها بشكل متكامل.
حول معبد أوام بالقرب من مدينة مأرب باليمن، حيث شارك مرقطن في عشرة مواسم من التنقيب، يبيّن أنه محاط بسور قطره ثلاثمئة متر بارتفاع ستّة عشر متراً، وهو أضخم معبد في الجزيرة العربية، وكان مكاناً لحجّ القبائل في وسط الجزيرة وجنوبها، ووثّق بنفسه نحو خمسمئة نقش من نقوشه التي تُغيّر العديد من المسلمات حول تاريخ الجزيرة.
في قراءة لهذه النقوش، يلفت المتحدّث إلى عدد من أسماء الله الحسنى؛ كالسميع والحليم والمنعم والعزيز والشكور والقيوم وغيرها من أسماء الآلهة في شبه الجزيرة قبل الإسلام، وأسماء أعلام مثل محمد ومحمود وأحمد ومحمدة وأحمدت، وكذلك بعض المصطلحات والمفاهيم التي ترد في النقوش ثم القرآن، ومنها الحلال والحرام والصلاة والطهارة والملائكة وربٌ أحد وأصحاب الفيل وذو القرنين، أو ما يماثل معنى حبل في آية "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا" في نصوص سبئية في القرن التاسع قبل الميلاد.
ويعيد الآيتين الكريمتين: "وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون" في سورة النجم إلى السمودة وهي قصيدة ملحمية مشتقّة من الجذر "سمد" إذ كان يتمّ الترنّم بها وغناؤها في لغة حمير، ما عُرف بـ"سجع الكهّان" في القرآن وهي قصائد رباعية موزونة كانت تمجّد الآلهة، وفي أحد النقوش المعينية يجيب الإله عفتر بتحريم قتل الأطفال (الوأد) والذي صدر في مرسوم يفيد بعقاب عسير لمن يرتكب هذه الجريمة.
استخدم العرب القدامى مصطلحات دينية وردت في القرآن لاحقاً
ويوثّق نقش نجراني قصةَ أصحاب الفيل اكتشفته مؤخّراً البعثة الفرنسية في السعودية، ويُظهر صورة فيلين والملك أبرهة في حملته لغزو مكّة وهدم الكعبة، بحسب مرقطن الذي يقرأ نقوشاً سبئية تتقاطع مع مصادر سريانية حول حادثة أصحاب الأخدود الذين أُحرقوا على يد الملك الحميري اليهودي يوسف أسأر بسبب اعتناقهم المسيحية، ويذكر أيضاً نقوشاً صفائية مكتشفة حديثاً غير منشورة حتى الآن تذكر النبي عيسى.
ويرى أنه بناءً على المادّة المتوفّرة من النقوش، كانت هناك في القرن السادس الميلادي لغة عربية متكاملة بمعجميتها القانونية وبالمصطلحات الدينية والأدبية، ويمكن تتبع تطوّر الخط العربي وبلا انقطاع في كافة مراحله منذ بداية القرن الأول وحتى القرن السابع الميلادي، في مناطق ما بين نجران وحوران.
في تقديمه للنظريات حول أصول الخطّ العربي، يشير إلى ما ورد في التراث من نظرية أسطورية غيبية ترتبط بآدم وإسماعيل، ونظرية الخط السرياني، ونظرية الخط المسند الذي استخدم في مملكة حمير، ونظرية المستشرقين وأتباعهم من العرب حول عدم وجود خط عربي وكتابات عربية زمن ظهور الإسلام، ونظرية الخط النبطي وما تقدمه الاكتشافات الحديثة.
ويخلص محمد مرقطن إلى أنّ العربية الفصحى انبثقت من مجموعة من اللهجات التي تسمّى بلهجات وسط وشمال الجزيرة، وابتداءً من القرن الأول الميلادي يمكن الحديث عن العربية الفصحى المبكرة، والتي تتمثّل في عشرات النقوش التي عُثر عليها في المنطقة الممتدّة من جوف اليمن إلى حوران في سورية، ومنذ القرن الرابع الميلادي بدأت تحولات لغوية ملحوظة باتجاه تطوير لغة أدبية مشتركة من خلال اندماج لهجات القبائل المختلفة في وسط وشمال الجزيرة، ورافقها تطوُّر الخط العربي، لتشكّل الينبوع الأول للفصحى التي ظهرت في لغة القرآن وما يسمى بالشعر الجاهلي.