يكتسب مشروع المفكّر المغربي محمد عابد الجابري (1935 ـ 2010) أهمّيّةً خاصّة في عالَمٍ عربيّ ينشد التخلّص من ديكتاتوريات متعدّدة وحركات جهْلٍ وتجهيل باسم الدين، والعلمانية أحياناً، تغلغلت في مجتمعاته وصار لها وزنها. وكِلاهما ــ الديكتاتور المتعلمِن، والمتأسلم الأيديولوجي ــ ينهلُ ويبرّرُ سطوته بالرجوع إلى التراث العربي والإسلامي كخلفيّة تضفي الشرعية وتُلهم وتعبّئ الناس، مستعيدةً أمجاد الماضي، الحقيقية والمتخيّلة والوهميّة، ومستعبدةً الناس بأفكار من قبيل السمع والطاعة والعنف من أجل الحاكم والأيديولوجيا الفارغة.
حين بدأ الجابري يكتب ويؤطّر لمشروعٍ نهضوي عربي، كان يمشي في مسار اختطّه مفكّرون عرب آخرون منذ منتصف القرن التاسع عشر، وإن كانت أطروحات كلّ واحد من هؤلاء تختلف حسب سياقاتها. فمعضلة العرب، وإنْ تعدّدت مشاكلهم ومشاربهم، تبدو واحدةً، أو كما كتب الجابري: "العقل الأخلاقي العربي هو "عقل" متعدّد في تكوينه ولكنّه واحد في بنيته". ومن هنا تأتي الأسئلة: كيفَ يكون العرب عناصرَ فاعلةً في الحداثة والعصر الحديث، ويحافظون على أصالتهم كثقافة في الوقت نفسه؟ كيف يصبحون أصحاب ديمقراطية حقّة وأنظمة مؤسّساتية منظّمة تقوم على العدل والكفاءة ودولة القانون؟ كيف يصبحُ الإنسان العربي مواطناً واعياً في دولة المواطنة التي تحمي الاختلاف الفكّري والمواطن الحرّ؟
تبدو هذه المسائل مثاليّة في ظِلّ الأوضاع والنُظم المعقّدة في العالم العربي، لكنّ الجابري رأى أنّ لا مناص من مواجهتها والخوض فيها لكي ينتقل العالَم العربي من مرحلة التقليد المشوّه إلى مرحلة الحداثة بكلّ تعقيداتها وفرصها. ذلك أنّه من دون الحداثة الرصينة القائمة على التغيير الجذري في أنظمة الحكم وديمقراطية تغلغل في فكر الأفراد والحركات السياسية والمجتمعات؛ تبقى النهضة، والتطوّر بشكلٍ عام، أحلاماً بعيدة المنال. هنا، تقترب أفكار الجابري إلى حدّ بعيد من أفكار محدثين آخرين مثل عبد الله العروي ومحمد أركون وأدونيس.
استكمل نقداً بدأه مفكرون عرب منذ منتصف القرن التاسع عشر
تتمثّل أهمّيّة الجابري في أصالة أفكاره وتعدّد مصادره ورصانة منهجيّته، وكذلك تجربته المجتمعية والتعليمية والسياسية في المغرب. ولد المفكّر المغربي في مدينة الفجيج وشارك في الكفاح ضدّ الاستعمار الفرنسي لبلاده، ثم انخرطَ في صفوف "حزب الاتحاد الاشتراكي"، قبل أن يتفرّغ بشكلٍ كامل تقريباً للعمل الأكاديمي والنشر منذ بداية الثمانينيات وحتى وفاته عام 2010، صابّاً جلَّ اهتمامة على مشروع حداثي نادر. وتكمنُ الكلمة الرئيسية في فكر الجابري في "النقد": نقد البنية العربية المعاصرة، ابتداءً من العقل والفكر وامتداداً للبنى السياسة والثقافية والأخلاقية. ويعني "النقد" هنا منهجيّةً وفكراً متكاملاً من أجل مجتمع منفتح على مسألة التراث والماضي، لأنَّه باسم هذا التراث تُرتكبُ فظاعات وجرائم كثيرة، وتنطق باسمه وتحتكرهُ أحزاب سياسية وأنظمة ديكتاتورية فاسدة.
ينطلق الجابري من حقيقة أنَّ التراث العربي والإسلامي هو بالأساس حصيلة اجتماع مواريث أخرى، على رأسها الموروثان اليوناني والفارسي. أحد هذه المواريث ــ وهو اليوناني ــ يقوم على العقل والبرهان، حيثُ تخضع الأشياء لمنهجيّة العقلانية والتكيّف مع المتغيّرات الحياتية للوصول إلى حلول دنيوية. أما الموروث الفارسي، فيقوم على الطاعة والخنوع للسلطان. ويُضاف إليهما موروث العرفان، وهو يقوم على التصوّف والدروشة ويهمّش الوعي، حيث تبقى الحياة في كنَفه غامضة، والعقل البشري مستقيلاً، وتلك ثقافة لا يمكن أن يُعوّل عليها لقيام مجتمع ديمقراطي حرّ.
أمّا الثقافة العربية الإسلامية، فهي تقوم على البيان، أي البلاغة واللغة، حيث يبدو فيها الصوتُ أهمّ من محتوى الأشياء، وكأنَّ كل المشاكل قابلة للتحلّل والاندثار لغوياً. وهذا ليس بشيءٍ من العقل الذي يستبطنُ الأشياء ليفهمها ويتفاعل معها. كما أنّ التراث العربي والإسلامي، في بنائه السياسي الذي يقوم على القبيلة والغنيمة والعقيدة، هو تراث قديم، نشأ في بيئة الجزيرة العربية قبل أن ينتشر في بيئات فيها نُظم سياسية معقّدة وأكثرُ تطوّراً من الناحية الفكرية والبنيوية. ففكر الشاطبي وابن خلدون وغيرهما في بلاد الأندلس، القائم على المنفعة المجتمعية وعلى أوّليّة السياسة والمصلحة، يختلف عن ذلك الذى ظهرَ في مجتمع الجزيرة العربية القائم على الولاءات والطاعة دون مُساءلة، خصوصاً حينما استفحل حكم القبيلة في عهد بني أميّة ثمَّ بني العباس.
لا ديمقراطية في العالم العربي اليوم بل فضاء سياسي مسموم
وكانت عصفت أزمات أخلاقية في قِيَم المجتمعات الإسلامية خلال حكم الصحابة وأتباعهم، ما جعلها مجتمعاتٍ فيها كثير من القبَليّة وطوباوية الفقهاء، على حدّ وصف عبد الله العروي. طغت القبيلة على حساب العدالة والمساواة مع الأمم الأخرى التي دخلت في كنف الإسلام وغيرها، الأمر الذي أدّى إلى أن يكون "المجتمع العربي طوال تاريخه المديد ــ وما زال حتى اليوم ــ مجتمعاً قلِقاً، على مستويات القيَم على الأقل"، بحسب تعبير الجابري. وفي ظلّ التخلّف والجهل اللذين انتشرا في العالم العربي، ذاع صيت ما يُعرفُ بـ "العبّاد والزهّاد"، وهو تقليدٌ عُرف في الحضارات السابقة، "تقليدُ البكاء والصياح، والتركيز على عذاب الآخرة، عذاب القبر، ووصف مشاهد القيامة بحماس وعظي منقطع النظير". وهنا يكمل الجابري نظرته التحليلية: "إنّ خطاب العذاب تخلو مفرداته من "الرحمة" "والعفو"، إلخ، وكأنّ مستمعيه ــ وجلّهم من الفقراء "الغلبة" الأبرياء ــ محكومٌ عليهم بالاستثناء من رحمة الله في الدنيا قبل الآخرة".
نحن، إذاً، أمام مشروع حداثيّ نقديّ مترامي الأطراف، يقوم على العقلانية ومدنيّة السياسة وتغيّرها بتغيّر السّياق، لأنّ مقوّمات الماضي لم تعد موجودةً في الحاضر. كما أنّه مشروع يؤسّس لرؤىً جديدة ولمستقبل يتطلّبُ البناء الإيجابي في الحاضر؛ مشروعٌ يتناول مركزيّة العقل، وأهمّيّة السياسة والثقافة والأخلاق، وتلك ركائز أساسية في أيّ حضارة وثقافة، إنْ شُوّهتْ شُوّه كلُّ شيء. وهذا هو حال العالم العربي اليوم، حيث لا ديمقراطية، بل فضاء سياسي مسموم، ونقص حادّ في الوعي السياسي، واحتراب على أفكَّار بالية يكاد لا يكون لها أوّل ولا آخر، في حين يتمّ تجاهل جوهر العلوم ــ سواءً الطبيعية أو الاجتماعية ــ باعتبارها ابتداعاً وخروجاً عن المقبول. وهذه العلوم هي حديثة ونقديّة، ولا تقوم على التلقين والحفظ وما شابه ذلك من أساليب استنقاعية. أمّا بالنسبة إلى الفكر الإسلامي القديم، بما فيه ابن خلدون، فهو، كما يقول العروي ــ الذي لا يبتعدُ كثيراً عن الجابري وإن كان، خلافاً للجابري، ينادي بالقطيعة الكاملة مع التراث ــ "يتضمن أخلاقيات، واجتماعيات، لكنّه لا يتضمن نظرية الدولة".
ولا يقلّل الجابري، كما العروي، من أهميّة الاستعمار في الوقوف حجرَ عثرة في وجه الحداثة والنهضة العربية، لكنّ الدور الأكبر لاستنهاض الأمّة وتحديثها تحديثاً جذرياً حداثياً لا رجعة عنه، يقعُ على عاتق الأحزاب السياسة وأنظمة الحكم العربية وأصحاب الفكّر وأنظمة التعليم.
يكتب الجابري في "بنية العقل العربي": "إنَّ ما ننشده اليوم من تحديثٍ للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقّف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، مكتسبات القرن العشرين وما بعده، بل، ولربما بالدرجة الأولى، يتوقفُ على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتأريخية ابن خلدون". النقد والعقلانية والتأصيل والتأريخ، تلك مناهج فكريّة رصينة في العلوم الاجتماعية، وليست فضاءاتِ اعتكافٍ في صوامع الماضي البالية، كما قد يعتقد البعض.
إرث محمد عابد الجابري النقدي للتراث العربي والإسلامي هو إرثٌ يشتركُ فيه كثيرٌ من المثقّفين العرب، من أمثال المؤرخ المغربي عبد الله العروي والمفكّر الجزائري محمد أركون والشاعر أدونيس. ولعلّهم كلهم يُجمعون على بؤس الحال من ناحية الفهم الحاضر للتراث العربي والإسلامي، بحيث يختلطُ فيه الديني بالسياسي، وتتمّ إعاقة الممارسة الحقيقية للحداثة، أي الديمقراطية ودولة القانون والمواطنة والمساواة وحرية الفكر.
* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن