لم يتخلَّ نقدُنا عن مناقشة حال القصيدة العربية الحديثة، التفعيلية منها والنثرية، ناهيك عن أشكال الكتابة الأُخرى كالشذرة والهايكو، منذ أن بدأت تحوّلاتها القوية في نهاية أربعينيات القرن الماضي. ولم يكفَّ هذا النقد عن مناقشة مشروعية انتمائها إلى الشعر العربي ذي التقاليد الموغلة في الزمان، بل وجدت هذه القصيدة من طعَن فيها بالعمالة والاغتراب وغيرهما من الاتهامات غير الموضوعية والخارجة عن النقد الأدبي، ونسي الخائضون في أمرها بأنّها في تحقُّقاتها الجديدة، لا تختلف في شيء عمّا حدث قديماً في العصر الوسيط.
ولعلّ الناقد ومؤرّخ الأدب إحسان عباس انتبه، أثناء استقرائه للتحوّلات في مسيرة شعرنا القديم، إلى "أن الموشَّح هو أوّل ثورة حقّقها الشعر العربي في إيثار الإيقاع الخفيف الذي يقرب الشقّة بين الشعر والنثر"، فهو يلفت انتباهنا إلى شيء جوهري لم يُراعِه النقاش النقدي بصدد القصيدة العربية، وهو أنّ أدبيّة الكتابة لم تكن أمراً مطروحاً البتّة قديماً، وأنّ القضية تعود إلى ابتكار صيغة مختلفة في الكتابة؛ لنُسمّها أسلوباً فريداً لم تألفه ثقافتنا الأدبية، بل وسيلة مغايرة كانت القصيدة القديمة قد ظلّت متمسّكة بها لقرون، تمثّلت في العروض بأوزانه المكرَّسة في استقراء الخليل بن أحمد أساساً وما استُدرك عليه، بصفته حدّاً فاصلاً للتمييز بين الشعر والنثر، ومعياراً وحيداً تُقاس به أدبية النصوص، على الرغم من برودتها وميوعتها.
نبّه الجاحظ إلى ارتهان الشعر العربي إلى الوزن وحده
ولم يكن إحسان عباس بدعاً ولا سبَّاقاً إلى هذا الرأي، فكما لا يخفى على الباحثين، فإنّ الجاحظ، بحصافة رأيه ونباهة عقله، تفطَّن إلى ضحالة المُعتمَد الشعري العربي، الذي يرتهن إلى الوزن وحدَه، لأنه يُسقِط الكوني عن الشعر العربي، ليُبقيه في حيّز المحلّي، بقوله: "وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يُترجَم، ولا يجوز عليه النقل؛ ومتى حُوِّل تقطَّع نظمُه وَبطل وزنُه، وذهب حُسنُه، وسقط موضع التعجّب، لا كالكلام المنثور. والكلام المنثور المُبتَدأ على ذلك أحسَنُ، وأوْقَعُ من المنثور [الذي تحوَّل من] موزون الشعر". في وقتٍ كانت فيه مُقترَحات جديدة لصياغة القصيدة العربية تعتمل في رحم الكتابة العربية، ولن تتأخَّر بعد زمنه كثيراً، بقدوم أبي تمام بمذهبه الشعري المختلف، الذي أسّس لمُعتمَد شعري آخر، وبما تطوَّر من نصوص لدى بعض المتصوّفة تحديداً.
ولا مشاحّة في أنّ موقف الجاحظ يُمكن ردُّه إلى انفتاحه على ثقافات العالَم، التي كانت تَفِد على بغداد، عاصمة المعرفة والثقافة في عهده، بما كان "بيت الحكمة" فيها يُيسّره لرُوّاده من أعمال فكرية وعلمية وإبداعية متنوّعة، فكان أن أوقفه ما أُنجِز من ترجمات لها إلى العربية على المُختلِف لدى الأغيار، خصوصاً في الشعر، وهكذا اتّضح له، بفعل مُقارَنته للإسهام العربي فيه بما لدى الشعوب الأُخرى، عن عدم اقتداره على إضافة الجديد إلى الكوني، إلى حدود عصرِه، بل إنه اجترأ على مُصارحة الذات العربية بالتواضع الكبير لشعرها، نظراً لاتّكائه على وسيلة واهية هي الوزن وحدَه، الذي صيّرته الذائقة العربية معياراً لأدبية القصيدة، الشيء الذي حوّلها إلى إبداعٍ محلّي لا يتجاوز اللسان العربي، بخلاف الدين الإسلامي الذي كان بصدد التوسّع واختراق ثقافات العالَم، وكأن الجاحظ يلمّح إلى افتقادِ الشعر العربي إلى الإعمال المُكثّف للفكر والمعرفة فيه، وإلى عدم صدوره عن انهمام إنساني مشترَك يُمكن أن يُحدث تفاعلاً معقولاً معه عند ثقافات العالَم.
ولعلّ ذلك ما يمكن أن يُستشفّ من قول الجاحظ: "وقد نُقلت كتب الهند، وتُرجِمت حكم اليونان، وحُوّلت آداب الفُرس؛ فبعضها ازداد حسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حُوّلت حكمة العرب [أي الشعر]، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن؛ مع أنهم لو حوّلوه لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم، التي وُضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم". فتكون الترجمة في رأيه هي المحكّ الذي تُعرَض عليه القصيدة، فتُعرَف بها أدبيتها وشاعريتها.
* أكاديمي ومترجم من المغرب