كان اليونانيون القدماء أوّل من اهتمّ بدراسة الجنون وتتبّعه. وكانوا يقصدون به آنذاك مرض الروح. تطوَّر مفهوم الجنون على مرّ العصور، وإن ظلّ في الغالب مُتأرجحاً بين اتّجاهين يحمل كلٌّ منهما معنى مختلفاً. فبينما مال أحدهما إلى الاتجاه الأخلاقي، بمعناه الفلسفي، نزع الآخر إلى الاتجاه الطبِّي، الأمر الذي أنتج التباساً وغموضاً حول مفهوم الكلمة. وعلى الرغم من كثرة الفلاسفة والمفكّرين الذين درسوا الجنون، ظلّ موضوعه مراوغاً وغامضاً، لدرجة أنّ البعض صنّفه على أنّه درجة من درجات الإبداع.
بعد اثني عشر عاماً من نجاح عمله "المجنونات"، ها هو الكاتب والمسرحي الإسباني خوسيه باسكوال أبيلان، يعود إلى المسرح، اليوم، بأبطال ونسخة جديدة من عمله حمل عنوان "المجنونان"، والذي يُعرض على خشبة "المسرح الصغير" في العاصمة الإسبانية مدريد، حتى الخامس والعشرين من آب/ أغسطس المقبل.
تجري أحداث المسرحية في عيادة طبيب نفساني، وتروي قصة رجُلين؛ جيفرسون المسؤول التنفيذي لأربع شركات كبيرة، والرجل المحسود بسبب ثرائه، والذي بالكاد لديه الوقت بسبب انشغالاته، وفيليب، الرجل المتزوّج من امرأة بالكاد يراها مرّة واحدة في الأسبوع، عاطل عن العمل وربّ منزل، يشعر بالوحدة والعزلة أكثر فأكثر. يكشف بطلا العمل المسرحي، عبر المُحادثة التي تجري بينهما، عن حياتهما المُتناقضة، وعن مشاعرهما التي تبدو أنها مُتشابهة: لقد اختارا الجنون كوسيلة للبقاء على قيد الحياة.
هكذا يُحدّد بطلا المسرحية المسار الذي ستسير عليه أحداث القصة: إنه الخطّ الذي يفصل بينهما في العيادة، وهو الخيط الرفيع نفسه الذي يفصل العقل عن الجنون: الحبّ، والعزلة، والأسرة، والذكريات، والسلطة، والقوة والرغبة في الاختفاء، وغيرها من المشاعر التي لا تنتهي والتي تُميِّز الحالة الذهنية لهذه الرجلين.
"إنه عمل يُشبه إلى حدّ كبير مسرحية 'مجنونات'، لكنّني قررت هذه المرّة أن أغيّر في الجنس. تاريخياً ارتبط عدم الاستقرار العاطفي، والاضطراب العقلي بالنساء أكثر منه بالذكور. هذه المسرحية تقلب المعادلة. والنتيجة التي وصلتُ إليها هي أنّ الجنون لا جنس له". يقول أبيلان، مخرج وكاتب العمل.
وبشكل عام تُبرِز المسرحية، بشكلٍ واضح، قُدرات الكائن الإنساني على اختراع الشخصيات، حيث يعرض مُخرج العمل لقطاتٍ مُختلفة لمواقف حياتية يبدو فيها بطلا العمل مُختلفَين في كلِّ موقف: في المنزل، وفي العمل، وفي الطريق. أو حتى في البنك، عندما يطلب أحدهما قرضاً. في كلّ موقفٍ من هذه المواقف يبتكر مخرج العمل حالة ما تُعبّر عن شخصية معيّنة.
يطرح العمل العديد من الأسئلة: ماذا يعني أن يكون المرء مجنوناً؟ وما هي المسافة الدقيقة التي تضع الإنسان على حافة الجنون أو العقل؟ هل التشخيص ضروريّ لإثبات وجود اضطراب عقلي؟ هي أسئلة ظهرت في العرض المسرحي، لكن المخرج قرّر ترك الإجابة عليها للمُشاهِد.