"ماذا يمكن لفنّ السينما تقديمه مغايرًا عمّا عهدناه؟" هو سؤالٌ لا بدّ أن يلاحق المرءَ خلال دورانه بين صالات العرض لمشاهدة ما جاء من أفلام في "مهرجان برلين السينمائي"، الذي اختتم عروضه قبل أسبوع. جوابٌ نادر، وغير متوقّع، يجده المُشاهد أو المشاهدة في ثلاثة أفلام من صُنع "مجموعة يوغنتار السينمائية" النّسوية، الناشطة في الهند، بالتعاون مع عشرات النساء العاملات في خدمة البيوت أو في المصانع، أو من النساء المعنّفات في البلد نفسه، واللاتي ساهمن في فنّ السينما من مواقعهنّ هذه، وليس كخرّيجات من معاهد السينما العالمية المختارة. وبسبب مواقعهنّ هذه بالتحديد، فقد تمكنّ من ولوج هذا المجال الفنّي من مدخل لم يطأه أحد، بل ربما لم يخطر في بال أحدهم أن يطأه بهذه الطريقة.
تنطلق الأفلام الثلاثة ــ والتي عُرضت ضمن برنامج "الفوروم" الموسّع، وجرى إنتاجها بين عامي 1981 و1983 ــ في عملية تحرٍّ لعلاقات القوّة غير المتوازنة ومنظومة غياب العدالة، التي تسيطر على الحياة اليوميّة وتسيّر حبكة هذه الأفلام وتقود حركة كاميراتها وإيقاعها.
في فيلم "أهذه قصّة فحسب؟" (1983)، تلاحق الكاميرا، بين جدران بيت ضيّق لا فسحة للحركة فيه، تفاصيلَ الحياة الزوجية لفتاة عادية من رجل عادي، حيث تُحاول هذه الفتاة، كلّما سنحت لها الفرصة، إنْ كان ذلك أثناء الظهيرة خلال استراحة عملها أو في ساعات الليل المتأخّرة بعد انتهائها ممّا أُلقي على عاتقها وحدها من مهام منزلية، أن تدرس لإتمام امتحاناتها الجامعية والحصول على الدرجة الجامعية الأولى.
نظرة سينمائية تُشرّح العنف الرأسمالي والذكوري في الهند
لكنْ سرعان ما تبدأ ردود فعل زوجها وعائلته نحو كل ما تقوم به هذه الفتاة بالتأرجح بين التقزّز منها والسّخرية من طموحاتها الصغيرة؛ ردود فعل تتطوّر تدريجيًا إلى عدائية واضحة تصبح يومية، فهي تبذّر النقود في مشاهدة الأفلام، وتلتهي عن خدمة زوجها باستقبال زميلاتها في العمل كضيفات في بيتها، والطعام الذي تحضّره رديء، ثم فوق هذا كلّه تنجب إناثًا "فقط"... وأخيرًا، حين تفكّر بترك عملها لتتمكّن من العناية بطفلتيها وتكريس الوقت الباقي لإكمال دراستها الجامعية، التي لمّا تنتهِ منها بعد، تثور ثائرة زوجها الذي يذكّرها بأن بيته ليس فندقًا يقوم بإيوائها وتقديم الطعام لها مجّانًا. وهكذا ينتهي المطاف بها وحيدة منهكة في حيّز خانق هو كل ما تبقّى لها في الحياة، التي بدورها لم تترك أمامها الكثير من الخيارات، أو بالأحرى تترك أمامها خيار واحد؛ الموت.
عقب فشلها في الانتحار، وتسريحها من المستشفى، تنطلق إلى الشارع الذي يبدو وكأنّه الحيّز الوحيد الذي يمكن للفرَج أن ينبثق منه.
أجل، الشارع، هذا هو الحيّز الممكن لمواجهة الظلم، وإليه تنطلق الشّخصيات في فيلم "الخادمة" (1981)، ثائرات على شروط عملهنّ المجحفة، التي تتطلّب ساعات عمل طويلة يقابلها أجر ضئيل، ونهايات أسبوع يقضينها في العناية بأولادِ وبناتِ مشغّليهنّ، لا بأبنائهنّ وبناتهنّ. يبدأ فيلم "الخادمة" من حيث ينتهي فيلم "أهذه قصة فحسب؟"، بعاملة في خدمة البيوت تدعو عاملات أُخريات في المجال نفسه، وعددهنّ بالمئات، للتظاهر من أجل المطالبة بتحسين شروط عملهنّ، وكذلك تكريم واحترام ما يقمن به من جهد في خدمة عائلات أُخرى، ما يحول دون أن يكون لهنّ دور يُذكر في حياتهنّ العائلية الشخصية، والتي، عاجلًا أم آجلًا، تتفتّت بغيابهنّ.
أفلامٌ تذكّرنا بنضال الشعب الفلسطيني في وجه الاضطهاد
هذا النضال الذي تُطلق فتيله الخادمات في منطقة بانغالور بالهند، سرعان ما يُثير نضالاً آخرَ في مصانع التبغ هناك، وهو الحدث الذي يتتبّعه فيلم "جمر التبغ" (1982) الذي قامت به مجموعة "يوغنتار" أيضًا بالتعاون مع عاملات في أحد مصانع التبغ في نيباني، جنوب شرقي الهند، حيث يعملن في ظروف أكثر ما تشبه تلك التي يصفها كارل ماركس في كتابه "رأس المال" للإشارة إلى مدى العنف المرافق لتراكم رأس المال. فمثل عمّال المناجم خلال القرن التاسع عشر، تُجابه العاملات في هذا المصنع ورديات عمل يومية تبدأ قبل حلول الفجر وتنتهي في ساعة متأخّرة من الليل. وقبالة هذه النساء اللواتي يثرن على شروط عملهنّ ويشكّلن اتّحادات ونقابات عمل، هنالك الرجال، أزواجهنّ، الذين يطاولهم هذا العنف أيضًا ويُبعدهم عن عائلاتهم، منكسرين منعزلين، منهم مَن يلجأ إلى تبديد ما تجني زوجاتهم من دخل، لإشباع إدمانه على الكحول، ومنهم مَن يلجأون إلى توجيه ما يعانون من عنف نحو من هَم أضعف منهم؛ زوجاتهم.
قد تبدو مصاعب ونضالات جميع مَن تُصوّرهنّ وتُصوّرهم هذه الأفلام "مستهلكة"، ومعاناة شخصياتها معهودة لحد الضجر، غير أن هذا بالضبط ما يجعل وقع هذا العنف أشدّ، إذ لا نُعارضه بسبب معرفتنا به لدرجة تجعله طبيعيًا: فتطبيعه هذا هو ما يمكّن من توحّشه.
وهنا تقوم العيون السينمائية لمجموعة "يوغنتار" بتسديد نظرها نحو هذا العنف، نظرة تشرّحه مجدّدًا بأدوات فنّية بحتة، كاعتمادها على التصوير بالأسود والأبيض، مُقصيةً بذلك أيّ لون يمكنه أن يجعل من هذه المشاهد واقعيةً، وبدل هذا يحوّلها إلى ما يفوق الواقع، دون أن يأبه بالخيال في الآن ذاته. يُضاف إلى هذا اعتمادُ كاميرا تلاحق الشخصيات بقلق يشوّه أي محاولة للتمركز في موقع بعينه. بحركة دائمة الارتجاف، تجد الكاميرا كذلك شخصيات الفيلم في لحظات وهنها، ابتسامها، أو حيائها، أو حين تكون ساهمة. إنها كاميرا تذكّر بكاميرا مصطفى أبو علي (1940 ــ 2009) خلال اقتفائه نضال الفدائيين والفدائيات ضد الاستعمار.
فالقلق الذي يسكن كاميرا "يوغنتار" يردّد صدى القلق الذي سكن كاميرا مصطفى أبو علي؛ قلقٌ يوحّد نضال النساء في الهند مع النضال الفلسطيني في الأردن ولبنان. نضالان هما الآن أشدّ ما يكونان عزلةً وبُعدًا بعضهما عن بعض كما عن النضالات الأخرى في أماكن كثيرة، ما يجعل من ثقل العنف والاضطهاد أشدّ. عرض أفلام "يوغنتار" يعود، على الأقل، ليذكرّ بكل ما تحمّله هؤلاء المضطهَدون والمضطهَدات يوميًا، وما حاولوا فعله يوميًا خلال العقود السابقة، وبقربهم، ولو سينمائيًا.
* كاتبة من فلسطين