مانويل ريفاس: العيش في ظلال الجنة القلِقة

10 مايو 2021
مانويل ريفاس (خورخو لوباتو، Getty)
+ الخط -

تشبه رواية الكاتب الإسباني مانويل ريفاس Manuel Rivas، "الأصوات المرتعشة"، الصادرة حديثاً عن "دار نينوى" بترجمة جعفر العلوني، التجوالَ في ذاكرةِ حياةٍ عادية. لكنّ معرفة القارئ أنّها حياةٌ كان مسرحُها الجانب الآخر من الموت والديكتاتورية، تجعلها ليست كذلك؛ فالنّص يحمل تفاصيل خافتة تَشعّ بالودّ، كما لو أنّ البشر يتستّرون في ظلالِ حياةٍ مسالمة قلقة، عن تلك الحياة المتوحّشة التي تحدث في الخارج.

يستعيدُ الراوي، وهو صحافي، ذاكرة طفولتهِ. وعَبر الوعي البدائيّ بالأشياء، يستعيدُ لحظات الخوف الأولى، وعلاقَته مع الأحجار والطيور، ومع أهلهِ؛ مع أختهِ ماريا، ووالدتهِ، بائعة الحليب، ووالده، عامل البناء الذي يخشى المرتفعات. يَلتَقِطُ الراوي عالم الحرب وآثارها، من خلال تناقضاتٍ تبدو غير ذاتِ بال. يتحدّث عن أيامهِ الأولى في المدرسة، وعبث مقاومة العالم خارج المنزل، واستعاضتهِ مع أختهِ عن البكاء بالاندفاع و"أخذ المقاعد" في رَكْب الحياة. في الصف، يسمع أحاديث الأستاذ عن الإمبراطورية الإسبانية المجيدة، ويسمعُ في الآن نفسهِ الصرخة الفرحة لزميلهِ، تعبيراً عن حلم الأطفال بأن يصيروا مهاجرين عندما يكبرون.

يرسم الكاتب، في عمله هذا، زمن فرانكو، من غير أن يخبرنا حكايات القمع والإجرام. إنّه يخبرنا، فحسب، بلسان الأطفال، عن رغبة الجميع مغادرةَ وطنهم. رغبةٌ تشي بفقدان الأمل بالبقاء، على الرغم من جمال المقاطعة التي تشكّل مسرحاً للحياة الهادئة ولتفاصيل الرواية، وهي إقليم غاليسيا في إسبانيا. "دائماً ما يتحدّث الناس، حين الهجرة، عن الحنين والشوق الذي يشعره المرء نحو أرضه عندما يهاجر إلى أرض أخرى. وبالفعل، مَن يهاجر كان يشعر بالحزن والأسى، لكنْ بالأمل كذلك. أمّا الحزن، الملازم دائماً، فكان لذلك الذي لم يستطع المغادرة".

يُخرج الراوي من لوحة الطبيعة والبشر أرقَّ ما فيها

تلتقي الأحداث في ذاكرة الراوي في لحظاتٍ تستدعي بعضها بعضاً، تتراكم اللحظات الاستثنائية في ذاكرته وتصنع شخصيّته. يذكر الحلاقة الأولى على الصفر في صالون خالهِ، ويربط تلك اللحظة البعيدة مع اليوم الأوّل من الخدمة العسكرية، إذ يشعر المرء بـ"الإهانة" ما إن يَنظر في المرآة. لا يُراكِبُ الراوي وعياً على آخر، وهو يستعيد اقتحام كتائب فرانكو لصالون الحلاقة، إذ لا يضفي على الحدث سوى فعل الاقتحام الذي لم يغيّر شيئاً. بذلك، تدخلُ الحرب قائمة الأفعال الرتيبة التي تحدث في الحياة. 

في الوقت الذي يتجنّب الحديث عنها على نحو مباشر، حيث يُحيل تفاصيل أخرى ــ رمزياً ــ إلى فعل الحرب؛ لقد عرف الجدّان بانقلاب فرانكو (1936)، إمّا عراكاً بين هدهدين أو نعيقاً لغراب. لا يتردّد ريفاس في استخدام عالم الطبيعة، بشكل مستمرّ، من أجل تفسير عالم البشر. يتحدّث الراوي عن علاقة البشر مع الحيوانات، مع الأبقار والطيور والجِراء، ويدخلها طقوس البشر من لغةٍ واستعارات. الرواية، بهذا المعنى، نصٌ متلاحمٌ عن الطبيعة.

الأصوات المرتعشة

يقصّ الراوي حكايات كثيرة عن الناس في الأرياف ويصوّر الحياة عبر مِهَنٍ، مثل الراعيات اللواتي لا يعدن إلا عندما تطأ أقدامهن الحافيات الشَمس في أعلى الجبال، والخيّاطات اللواتي يحملن ماكينة "سينغر" على رؤوسهن بين الأودية والقرى. وبين الأغاني والمرثيّات، بين الفرح والآلام، يشيّد الكاتب أجواءً، لفرط فتنتها، لا يعرف القارئ، وهو يقرأها، إن كان عيشُ الناس فيها عيشاً شاقّاً أو أنّه عيشٌ عَذبٌ. هذا ما تهبهُ الحياة التلقائية التي يمكن أن يحدث فيها كلّ شيء، من غير أن يُشتّت سكينتها.

يُخرِجُ الراوي - الذي نشأ لأبٍ لا يحتمل ذبح الحيوانات - من لوحة الطبيعة والبشر، أرقَّ ما فيها. عندما يبكي الأطفال بسبب بيع الأب للسكسوفون مِن جرّاء فاقتهِ؛ يخبرهم أنّ الرجل الذي أخذ الآلة يحتاج إليها كي يكسب لقمة عيشهِ. باستخدام حِيَلٍ من هذا النوع، تَشكّل وعيُ الراوي، ونَمَا إزاء الجماليات، حتى أنّه بات يرى في هبوب الريح مساعدةً للنّساء اللواتي يغسلن. تتعاقب الأزمنة في الرواية تعاقُبَها ذاته في القرية، التي يشبّهها الكاتب بـ"الجنّة القلقة".

والخوف البدائي غير الواعي في الطفولة صار خوفاً من طغاةٍ لا يفهمون الدعابة؛ يُخبرنا الراوي عن اعتقالٍ موكبٍ جسّد جنازة مفترضة لفرانكو، بعدما صنعوا دمية ووضعوا عليها صورة فرانكو، وحملوها على حمار، ثمّ رموها في نهر مونيلوس. وتكتسب الأصوات الخفيضة دلالتها السياسيّة في ظلّ الحديث عن السجناء، إذ تقول إحدى الشخصيات للراوي: "لا تتكلّم بصوتٍ مرتفع! اخفض صوتك". لكن، وعلى الرغم من تعاقب الأزمنة، يبقى الراوي منصتاً لأصداء الأحداث الأولى، يعود إلى الشجار الأوّل والخروج الأوّل من المنزل والكتاب غير المدرسي الأوّل والصورة العائلية الأولى...

كما لو أنّ الكتابة تأخذ شكل اعتذار من أولئك الذين رحلوا

لقد بدت الأشياء الأولى غير نهائية في عالمهِ لشدّة ما احتفى بها خلال النّص، وعبر الاحتفاء المتواصل بالبدايات، جعل الكاتب من سردهِ سرداً متأهّباً لكي يتحرّر في مسارات للشخصيات، من غير أن يتحرّر. إنّه نص ينتهي في البداية، البداية هي ذروتهُ القصوى. تستمر الأشياء الأولى بالتتالي حتى يصبحَ الراوي صحافياً، ويقصّ حكايَته مع الصحافة، يقصُّ أيضاً مغامراتهِ الأولى وتدرّجه في المهمات التي أوكلت إليه.

تظهر ماريا في الرواية برفقة أخيها الراوي في كلّ الأحداث التي عرفها، بدءاً من النوم تحت أكواز الذرة في الحقول، إلى النوم تحت أسقف تدلفُ في المدن. وموتها هو الحدث الأخير والأوّل في النّص، كما لو أنّ الراوي كان يقصُّ حياته مع تلك الأخت التي كانت تمدُّ الجميع بالمساعدة. والنصّ الذي نَمَا بين لحظة الخوف الأولى على هيئة ملوك الكاثوليك في الكرنفال الاحتفالي، حتى لحظة الموت التي جاءت على هيئة شجرة ليمون فوق ركام المنزل الأول، حديثٌ خافتٌ إلى أختٍ متوفاة، كما لو أنّ الكتابة تأخذ شكل الاعتذار من أولئك الذين رحلوا.


* كاتب من سورية

المساهمون