مع كلّ حربٍ أو أزمةٍ كبيرة، يعود، في عالم الثقافة والفن، السؤال نفسه: ما الذي يمكن فِعله؟ سؤال طرحه العديد من وجوه الحداثة، مثل الشاعر الألماني هولدرلين، الذي تساءل ــ في جملة باتت مشهورة اليوم ــ حول ما الذي يمكن للشاعر فعله في الأزمنة العصيبة. الإجابات على سؤال كهذا تتنوّع، ربّما، بتنوّع الأفراد وطبائعهم.
خلال الحرب العالمية الثانية، أخذ هذا التساؤل صيَغاً جدية لم يسبق أن عرفها من قبل، حتى أن بعضاً من المفكّرين، مثل تيودور أدورنو، ذهبوا حدّ القول باستحالة الشعر، وبلا ضروريّته أو حتى نهايته، بعد الفظائع التي عرفتها أوروبا بين نهاية الثلاثينيات ومنتصف الأربعينيات. أمام هذه الدعوة، وأمام الصمت الإبداعي الذي يتملّك البعض في فترات الحروب، ثمة فنانون آخرون يجدون في العمل الإبداعي، وفي صيغة عذبة أو حتى "رومانسية" منه، ملجأً من صعوبة الواقع، أو طريقة للردّ عليه.
هذا هو حال الفنان البلجيكي رُنيه ماغريت (1898 ــ 1967)، الذي تكثّفت من حوله الأزمات ــ العائلية والاجتماعية والسياسية ــ خلال الحرب العالمية الثانية، فرأى نفسه يعود إلى علاقة جديدة أو رومانسية بالرسم، مصوّراً مواضيع تُدخل البهجة إلى القلب، فيما سيسمّيه المختصّون بأعماله لاحقاً بـ"مرحلة رُنوار". أعمال هذه المرحلة، شبه المجهولة من مسيرته لدى الجمهور الواسع، تُعرَض حالياً وحتى التاسع عشر من تمّوز/ يوليو المقبل في "متحف أورانجري" في باريس.
المعرض الذي يحمل عنوان "ماغريت / رُنوار: السوريالية تحت شمسٍ ساطعة" يضمّ نحو 60 لوحةً و40 رسماً أنجزها الفنان البلجيكي بين عامي 1941 و1947، مستخدماً ألواناً مرِحة ومُبهجة، تغلب عليها درجاتٌ من الأصفر والبرتقالي، ومصوّراً فيها باقات من الزهور، أو نساءً، أو أغراضاً من الحياة اليومية كتلك التي اشتُهر بها في مرحلة السوريالية البحتة (مظلّة، كأس ماء، حقيبة، إلخ) لكن ضمن أجواء أقلّ برودةً وسوداويةً وحمْلاً لأسئلة الوجود المعقّدة.
ورُبطت هذه المرحلة من تجربة ماغريت باسم أوغست رُنوار لتأثُّر الفنّان البلجيكي بالرسّام الفرنسي على صعيد الألوان والخطوط وحتى بعض المواضيع التي تُصوّر مشاهد صيفية مشرِقة، واجتماعات عائلية، وبوتريهات تُظهر الجانب الإنساني والجميل في الوجوه التي ترسمها.
لكنْ رغم هذه الميول الرومانسية، السابقة زمنياً على مدرسةٍ فنية كالسوريالية، إلّا أن ماغريت لم يتخلَّ عن توجّهه السوريالي، وهو الذي بدأ حياته متقرّباً من الدادائيين، واستمرّ في العمل إلى جانب أسماء سوريالية مثل الشاعر أندريه بروتون حتى سنوات عمره الأخيرة. بل إن منظّمي المعرَض يُحيلون سبب تخلّي ماغريت عن تأثيرات رُنوار، بعد نهاية الحرب، إلى خضوعه لآراء بروتون الرافضة لرومانسيةٍ كهذه.