- الرواية تعكس شكوكًا حول المستقبل بعد الثورات، مشيرة إلى تكرار فشل الحركات الثورية في العالم العربي بسبب غياب خطة واضحة لما بعد إسقاط النظام.
- تسلط الضوء على الفجوة بين رغبة التغيير والقدرة على تقديم بديل أفضل، مؤكدة على ضرورة الجمع بين الشجاعة لهدم القديم والحكمة لبناء الجديد.
في رواية "زوربا " لـ كازانتزاكي، يسأل زوربا رئيسه في العمل: "أنت تريد أن تثير الشعب، أن تفتح عيونه... دع الناس مطمئنّين.. لا تفتح أعينهم، إذا فتحت أعينهم، فما الذي سيرون؟ بؤسهم؟ دعهم إذن مستمرّين في أحلامهم"، ثمّ يضيف: "إلّا إذا كان لديك، عندما تفتح أعينهم، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الآن. ألديك هذا العالم؟".
فيجيب الرئيسُ الراوي: "كنت أعلم جيّداً ما سيتهدّم. لكنّني لا أعرف ما الذي سيُبنى فوق الأنقاض".
تكاد تُمثّل هذه الإجابة حالة جميع الثورات والانتفاضات والتمرّدات التي سعى فيها الشعب، أو الثوّار، أو المنتفضون، أو المتظاهرون، والكتّاب والمفكّرون، في العالم العربي، منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، أي منذ أن بدأت أفكار العالم الجديد تصل إلى بلادنا، سواء من الغرب، أو من الشرق، للثورة على العالم القديم. فقد كان جميع المناضلين من أجل الحرية، أو الديمقراطية، أو التخلّص من المستبدّ، أو من أجل الحياة الأفضل، أو الاشتراكية، يعرفون تماماً ما الذي لا يريدونه، أو ما الذي سوف يهدمونه، ولكنّنا لا نقرأ في أيّ بيان، أو خطّة، أو برنامج، أو شعارات ما الذي يريد أولئك الذين يتقنون الهدم بناءه بدل الأبنية التي سيهدمونها.
واللافت أنّ البنية القديمة آيلة للانهيار فعلاً، ومع ذلك فلن تجد في أيّ مكان من عالمنا العربي، أو في أي زمان، من أزمنته الجريحة، مشروعاً واحداً متكاملاً يتحدّث عن اليوم التالي.
لا مشروع بديلاً ولو كان كتاب قراءة للصفّ الأوّل الابتدائي
وبالرغم من هزائم الماضي القريب المتكررّة، فإنّ جميع الثورات التالية في الربيع العربي لم تتحدّث إلّا عن الهدم أيضاً. لم يُقدّم الثائرون، هم محقّون في ثورتهم في الدول العربية التي شهدت الثورات، أيّ مشروع بديل حتى ولو عن كتاب القراءة للصفّ الأوّل الابتدائي، وكلّهم كانوا يعرفون جيّداً ما الذي لا يريدونه، وكلّهم يريدون هدم الحاضر السياسي، ولكنّهم مثل راوي زوربا: فتحوا عيون الشعب على العالم الأفضل، ولم يعرفوا هم، أو هو، ما الذي سيُبنى فوق الأنقاض.
المشكلة أمامنا أضحت مشكلتين اليوم، الأُولى هي تلك التي يتحدّث عنها الراوي في رواية زوربا، إذ إنّ العالم الجديد لا يتّضح كفايةً، أو لا يتّضح بالمرّة، والثانية هي أنّ النجاح الجزئي الذي تحقّق لم يُقدّم أي بديل. لقد أُعيد من جديد إنتاج الطاغية، كأنّ الطغاة الجدد قد تعلّموا جيّداً كيف يمسكون السلطة، اقتداءً بالفشل الذي سار فيه أسلافهم، وتلك هي المفارقة الغريبة، إذ يعجز الثوري عن التعلّم، بينما يتعلّم الطاغية من العجز.
واللافت أنّ الشخصية التي يعجب بها الثوريّون في العالم، وهي زوربا، تطالب الراوي بالتوقّف عن صناعة الحلم، وترى أنّ ترك الناس في حياتهم المعتادة، المظلمة، أفضل بكثير من إخراجهم منها إلى حياة جديدة أُخرى مظلمة، إذا لم يكن لديهم حلّ آخر، أو فكرة مختلفة، وخطّة كبيرة تدحض الحاضر البائس. يبدو زورباً صادقا في دعواه، غير أنّ صدقه، وصدق الراوي، يُبقي العالم في بؤسه، وفقره، والظلم الواقع عليه. إنّه صدق المهزوم، الذي لا يعرف شيئاً عن العالم الذي يحلم به.
* روائي من سورية