ماتياس إينار: عودة إلى جسر تركه مايكل أنجلو في إسطنبول

15 ابريل 2022
مايكل آنجلو في بورتريه يعود إلى القرن 16 (Getty)
+ الخط -

مثلما تقوم فكرة رواية "حدّثهم عن المعارك وعن الملوك وعن الفيلة" للكاتب الفرنسي ماتياس إينار (1972) على استدعاء النحَّات الإيطالي مايكل أنجلو من قبل السلطان العثماني بايزيد الثاني في العام 1506م لبناء جسر في إسطنبول؛ فإنَّ الفكرة الموازية أو الفكرة المنشودة للرواية تقوم على تبنِّي مقولة بناء جسر واصل بين الشرق والغرب، أو بين نسقين حضاريين يمكن تضييق خلافاتهما المُدمِّرة إلى الحدّ الأقصى، وتوسيع اختلافاتهما المُثمرة إلى الحدّ الأقصى أيضًا.

الفكرة الإبداعية أنَّ الرواية ذاتها - التي ترجمتها إلى العربية أمال .ن. الحلبي وصدرت بداية هذا العام عن "دار التنوير" - هي الجسر الواصل بين الشرق والغرب؛ فما عُجز عن علاجه في الواقع يُطبَّب بالخيال. الفكرة الأولى، أو الفكرة الأساسية للرواية، تقوم على استدعاء مايكل أنجلو لبناء جسر سيتعرَّض إلى الهدم، وفقًا لما تسرده الرواية، التي لا تتقاطع بالضرورة مع الوقائع التاريخية. ففي "الرابع عشر من أيلول 1509م، وفي لحظة افتتاح مايكل أنجلو ورشة العمل في كنيسة سيستين، ضرب زلزال مخيف مدينة إسطنبول"، وقد كان الدمار قد لحق بجسر مايكل أنجلو، "الذي كانت دعامته وأعمدته قد بُنيت، وكذلك عدد من القناطر الأولية. تزعزع البناء وانهار؛ ودفعت الأمواج الهائجة بشراسة جرّاء الانشقاق الأرضي أجزاءه حتى مضيق البسفور، ولم يأتِ أحد على ذكر الجسر بعد ذلك".

الفكرة المنشودة، أو فكرة إعادة بناء جسر بين الشرق والغرب، ما زالت في طور الطوبى أو الحُلم المنشود. وهذا ما عبَّر عنه الروائي ماتياس إينار ساعة كتبَ: "في نفسه [يقصد مايكل أنجلو] من إسطنبول نورٌ مبهمٌ، وحلاوة لطيفة ممزوجة بالمرارة، وموسيقى بعيدة، وأشكال رقيقة، وملذّات تآكلها صدأ الزمن، وعذاب العنف والخسارة: الأيدي التي منعته الحياة من الإمساك بها؛ ووجوه لم ولن يلمسها؛ وجسور لم تمدّ بعد". أمّا الجسر الحقيقي فهو الرواية ذاتها، بما هي انتصار للاختلاف العقلي المُبدع على الخلافات السياسية والدينية والأيديولوجية.

لكي يتغيّر الواقع لا بُدَّ من التأسيس لذلك في الخيال

بناء على ذلك، ينطوي نصّ "حدثهم عن المعارك وعن الملوك وعن الفيلة" على ثلاث طبقات رئيسية: تتمثّل الطبقة الأولى بالفكرة المسرودة في النصِّ. فقد تضمّن النصّ الدعوة التي تلقاها النحَّات الإيطالي مايكل أنجلو لزيارة إسطنبول من السلطان العثماني بايزيد الثاني من أجل بناء جسر فيها، وتلبية النحَّات للدعوة. نقرأ: "بعد نزول مايكل أنجلو بيوناروتي منها [يقصد من الفرقاطة] إلى مرفأ القسطنطينية في الثالث عشر من مايو العام 1506، قفز مايكل أنجلو إلى اليابسة في غضون لحظات من الإرساء".

يتابع الروائي سرد تفاصيل إقامة النحَّات في حاضرة العالَم يومذاك، والعلاقات الإنسانية والعملية التي جمعته بجُملة من الأشخاص (وزراء في بلاط الخليفة، مترجم، مهندسون، حِرفيون، راقصون، خدم، معشوقة...) والأشياء (أحبار، قراطيس، أدوات هندسية، قرود، شوارع المدينة، موانيها، مراكبها، خناجر، فيلة...) والأفكار (التصاميم المبهرة في "آيا صوفيا"، الشجن في أصوات المؤذنين في المساجد...)، إلى أن يصل به الأمر إلى وضع تصاميم مُحْكَمة للجسر الذي عمل المهندسون والحرفيون والعمّال على الشروع في تحويله من فكرة إلى واقع. ومن ثمَّ عودته إلى إيطاليا والذكريات التي بقيت عالقة في رأس النحَّات حتى زمن متقدّم من عمره. فالحدث الرئيسي ـ وهو مُجمل الرواية - يسرده الروائي على هيئةِ حكايةٍ بسيطة تتدفّق فيها الأحداث من دون عناء أو حمولات لغوية زائدة، بما يجعل من قراءتها عملًا سلسًا ومُمتعًا.

أمّا الطبقة الثانية من النصِّ، فهي تأويل تلك الفكرة. ذلك أنَّ الفكرة المنشودة من الرواية تسلتزم بناء جسر بين نسقين حضاريين مختلفين. فالحضارة، بمعناها العميق، نِتاج تلاقح حيوات عديدة وكثيرة؛ حيوات تُحوِّل خلافاتها الدينية والسياسية والأيديولوجية والوطنية والقومية والإثنية إلى اختلافات إبداعية، بعد أن تصهرها في قانون ناظم وحامٍ للاجتماع السياسي. فمايكل أنجلو، أحد أعظم من أبدعوا في التاريخ البشري، لم يكن معزولًا عن سياقات التأثُّر والتأثير، فزيارته لإسطنبول ستطبع رؤاه وأفكاره لبقية حياته، ليس على المستوى النفسي فحسب، بل في الواقع العملي أيضًا.

حدثهم عن المعارك وعن الملوك وعن الفيلة - القسم الثقافي

وهذا ما أَفصحَ عنه النصّ في بعض جوانبه: "في الرسم كما في العمارة، يدين مايكل أنجلو بيوناروتي بقدر كبير من إبداعه إلى إسطنبول. غيّرت معرفته لهذه المدينة، ومعرفته بالشعوب الأخرى، نظرته إلى الأمور. والألوان والأشكال، المشاهد التي رآها في إسطنبول، سوف تطبع عمله إلى نهاية حياته. وسوف يستوحي في تصميم قبّة كنيسة القديس بطرس من قبّة كنيسة القدّيسة صوفيا ومن جامع بايزيد، وفي تصميم مكتبة عائلة ميديتشي من مكتبة السلطان التي كان يزورها (...). وحتى التماثيل في كنيسة ميديتشي وتمثال موسى الذي نفّذه بناء على طلب من البابا يوليوس الثاني، كلّها سينطبع بما رآه الفنان واختبره من مواقف وشخصيات التقاها هنا في القسطنطينية".

فإسطنبول التي استدعت النحَّات العظيم لتستفيد من إبداعاته، حملها ذلك النحَّات على ظهره يوم عاد إلى إيطاليا. في إشارة من الروائي ماتياس إينار إلى الجسر الرمزي الذي انبنى بين مُبدع آتٍ من الحضارة الغربية والمدينة التي تنتمي إلى الحضارة الشرقية. فحالة التثاقف التي حدثت بين المُبدع بصفته ممثّلًا لحضارة غربية ذات طابع ديني وعقدي وإثني وأيديولوجي، وبين مدينة إسطنبول بصفتها ذات طابع ديني وعقدي وإثني وأيديولوجي مختلف؛ هي الجسر المستقبلي المنشود بين الشرق والغرب. أو هي - بلغة أخرى - الرؤية التي تكمن وراء النص.

أمّا الطبقة الثالثة، فهي الرواية ذاتها بما هي الجسر الذي عجز الشرق والغرب عن بنائه على أرض الواقع على مدار قرون طويلة، فبناه ماتياس إينار في الخيال على شكل رواية. فالخيال - والحالة هذه منزع إنساني عظيم - يسعى إلى تجسير الهوّة بين عالمين بقدر ما هما قريبان عن بعضهما البعض بقدر ما هما بعيدان ومتباعدان. فدائمًا، لكي يتغيّر الواقع، لا بُدَّ من التأسيس لهذا التغيير في الخيال أولًا، أو يمكن القول: إن تغيير ما في الأعيان يتطلّب تغيير ما في الأذهان ابتداءً، وفقًا للمقولة العربية القديمة.


* كاتب من الأردن

المساهمون