بعد صدور "النبي" بثلاث سنوات تأسّس أول قسم للاستشراق في البلقان بـ"جامعة بلغراد" عام 1926، الذي كان له دوره في التعريف بمؤلّفه جبران خليل جبران على مدى عدّة أجيال، إذ كان من أبرز تلاميذ المؤسس فهيم يايراكتارفيتش (1970-1889)، حسن كلشي (1922-1976) الذي تخرّج من القسم في 1951 وعمل فيه حتى 1965.
وفي الواقع كان كلشي من روّاد التعريف بالأدب العربي الحديث والمعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين في يوغسلافيا، وهي الفترة التي شهدت "انحراف" الاتحاد اليوغسلافي عن المعسكر الشيوعي في أوروبا الشرقية وانفتاحه على "العالم الثالث"؛ سياسةً وثقافةً وترجمةً لأدبه.
وفي تلك المرحلة، كان كلشي أول من عرّف بجبران بترجمته لنصّ له بعنوان "السمّ في العسل"، والذي نشره خلال عام 1954 في الصفحة الثقافية لجريدة "فلاكا" التي تصدر في سكوبيه؛ عاصمة جمهورية مقدونيا. وبحكم تزايد الاهتمام بترجمة الأدب العربي إلى لغات يوغسلافيا، نجد أن ترجمة جبران كانت تتمّ من العربية ومن الروسية. فمن ترجموا له من العربية مباشرة خلال عاميْ 1959-1960 كانوا محمد مويتش وعمر ناكيتشافييتش وليليانا شياكوفيتش.
بقي "النبي" الكتاب الأشهر لجبران الذي يجذب القرّاء
ومع تأسيس كلشي لقسم الاستشراق في "جامعة بريشتينا" عام 1973، بثّ فيه روحه واهتمامه بالأدب العربي. وبرز في هذا السياق أسعد دوراكوفيتش الذي بدأ عمله في 1975 أستاذا مساعداً لكلشي في تدريس الأدب العربي، ليُطلق موجةً كبيرة من الاهتمام بجبران غطّت عدّة جمهوريات في يوغسلافيا السابقة. ومردّ هذا الاهتمام يرتبط بأطروحة الدكتوراه لأسعد دوراكوفيتش التي كانت عن الأدب المهجري ودور"الرابطة القلمية" (وكان جبران من أعضائها) في بثّ روح جديدة في الأدب العربي.
وهكذا، بعد سلسلة ترجمات من الأدب العربي نشرها لدى دار "بغدالا" الصربية المهتمة بآداب العالم الثالث، صدرت له في 1986 أول مختارات لجبران شملت أعماله في العربية والإنكليزية، حيث تضمّنت هذه المختارات ثلاثة مؤلّفات ("الأجنحة المتكسرة"، و"عرائس المروج"، و"الأرواح المتمردة" من ترجمة دوراكوفيتش) ثم توسّعت مع إضافة "النبي" من ترجمة عمرة سليمانوفيتش- حيدروفيتش، التي تخرّجت من قسم الاستشراق في سراييفو وأصبحت مترجمة معروفة عن العربية والإنكليزية، لتصدر هذه المرة في زغرب عن دار النشر المعروفة GZH بطبعةٍ وصلت إلى خمسة آلاف نسخة نفدت من الأسواق بسرعة، وهي طبعة كبيرة مقارنة مع هذه الأيام.
وقد راجت هذه الأعمال التي صدرت لاحقاً في بلغراد ("النبي" و"حديقة النبي" 1997 وغيرهما) وفي سراييفو ورييكا حتى عام 2020، حين صدرت في بلغراد بعض هذه المختارات بعنوان جديد "النبي وأعمال أُخرى". ويلاحظ هنا، أنه في هذه المرّة، وفي لغات أُخرى أصبح "النبي" يوضع في العنوان مع إضافة "وأعمال أُخرى"، لأن "النبي" بقي هو الكتاب الأشهر لجبران الذي يجذب القرّاء ولذلك كان "يسوّق" معه الأعمال الأُخرى للكاتب اللبناني.
ويبدو أن هذا الاهتمام الكبير بجبران كان يعبّر عن اكتشاف منبع فكري- روحي جديد في وقت كانت الفكرة اليوغسلافية والإيديولوجية الحاكمة قد وصلت إلى نهايتها بعد سلسلة من الهزّات السياسية والاقتصادية التي ولّدت بحثاً عن بديلٍ لتلك الإيديولوجية التي حكمت البلاد حوالي خمسين سنة.
وفي هذا السياق، نجد أن بريشتينا، التي احتضنت القسم الثالث للاستشراق في يوغسلافيا، كانت سبّاقة إلى التعريف بـ "النبي" وغيره في اللغة الألبانية، في الوقت الذي كانت فيه ألبانيا لا تزال "القلعة الستالينية الأخيرة" في أوروبا، حيث كانت "المسطرة الجدانوفية" لا تسمح بترجمة أو نشر "النبي" الذي كان أكثر الكتب مبيعاً في العالم، لأنه كان لديها "النبي" الحاكم (أنور خوجا) الذي تُغني مؤلّفاته الكثيرة "البروليتاريا والفلاحين" بما يحتاجونه. وهكذا فقد صدرت الطبعة الألبانية لـ "النبي" في بريشتينا بترجمة جيدة من قِبل الشاعر والمترجم نهاد خوجا (1951-2017) الذي أغنى الأدب الألباني بترجماته من الأدب العالمي لإدغار ألان بو وصموئيل بيكيت وطاغور وغيرهم.
تُرجم جبران من العربية والروسية إلى لغات يوغسلافيا
ومما يؤكد ذلك اكتساح الديمقراطية لألبانيا عام 1990 وانفتاحها على العالم، بما في ذلك تأسيس دور نشر خاصة أصبحت تتولّى تعويض ما فات من عقود، وفتح الطريق للقرّاء المتلّهفين على كلّ ما هو جديد، وأن يطلعوا لأوّل مرّة على مؤلفات جيران وعلى رأسها "النبي".
وهكذا صدرت عام 2003 أول ترجمة لـ "النبي" بتوقيع مكسيم راكيباي، الذي كان من ضحايا النظام الشيوعي وتوجّه للترجمة بزخم بعد سقوط النظام، ثم صدرت في 2009 ترجمة أُخرى بتوقيع يوزف رادي. ويلاحظ بعد ذلك أن الطبعات اللاحقة أصبحت تتضمّن في الغلاف "النبي"، ومعه مؤلفات أُخرى لجبران، لأن "النبي" بقي يجذب القرّاء.
وتوالى إصدار ترجمات، منها "النبي وحديقة النبي" عام 2016 بتوقيع مكسيم راكيباي، بينما صدر كتاب "النبي وتأملات جمالية" عام 2017 بتوقيع سعيد ن. سعيدي، وتبعته "مختارات" بتوقيع بيرم كارابولا عام 2019 تضمنت "النبي" بطبيعة الحال. وفي غضون ذلك، صدرت في بريشتينا خلال 2016 ترجمة ألبانية جديدة بتوقيع علوي سيذري لـ "النبي ولبنانك ولبناني"، ويتوقّع أيضاً أن تصدر في هذه السنة طبعات جديدة بمناسبة مرور مئة عام على صدور الكتاب.
ويلاحظ هنا أن الترجمات الألبانية، باستثناء الأولى التي حافظت على الصيغة العربية لاسمه "خليل" وكسرت "جِبران" Halil Xhubran، قد أخذت بالصيغة الإنكليزية Khalil Gibran التي تُصبح عندما تُلفظ بعيدة عن الأصل على عكس الترجمات إلى الصربية والكرواتية والبوسنوية التي حافظت في أغلبها على اللفظ العربي للاسم.
ومن المؤكد أنه في هذا العام ستصل مئوية الكتاب، الذي صدر لأول مرة في أيلول سبتمبر سنة 1923، إلى جمهوريات يوغسلافيا السابقة (السبع الآن) التي كان قد انطلق منها الاهتمام في البلقان بصاحب "النبي"؛ جبران خليل جبران، الذي أصبحت أغلفة كتبه المنشورة تستحقّ أن تُعرض في معرض بهذه المئوية لأن بعضها اعتمد بعض لوحاته أيضاً.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري