انتهى العام الأدبيّ الماضي، في مصر، على نقاشاتٍ حول تركة نجيب محفوظ، وانتقال حقوق أعماله إلى ناشرَيْن جديدَيْن، هما دار "ديوان"، التي استحوذت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي على حقوق طباعة أعماله الكاملة ورقياً، في حين ذهب الحقّ في إصدار هذه الأعمال إلكترونياً، قبل ذلك بشهرين، إلى "مؤسّسة هنداوي".
نقاشات وجدالات دارت بشكل أساسيّ حول إعلان "ديوان" تسمية لجنة "مراجعة" مهمّتها التدقيق في منشورات حائز "نوبل"، الأمر الذي حرّك مخاوفَ من المَساس بالنصّ الأصلي، ومن تسليط رقابةٍ عليه، رغم إيضاح الدار، أكثر من مرّة، نيّتها القيام بعكس ذلك: أي مراجعة أعمال محفوظ، ومقارنة مختلف طبعاتها بين بعضها البعض، وبينها وبين المخطوطات الأصلية، للوصول إلى نصّ نهائيّ تُعاد إليه المقاطع أو الصفحات التي جرى حذفُها، من الرقابة أو من غيرها من الجهات، وتُستدرَك فيه الهفوات الطباعية والأخطاء اللغوية.
ويمكن القول، اليوم، إنّ ثمّة إمكانية لعودة هذه النقاشات، مع اقتراب إصدار الدار، خلال أيار/ مايو الجاري، الدفعة الأولى من الطبعة الجديدة من أعمال صاحب "أفراح القبّة"؛ دفعة أولى تُشير "ديوان" إلى أنّها ستشمل ثلاثيته، في حين تُنشَر بقيّة كتاباته تباعاً. بل إنّ هذا الأمر قد يبدأ قبل ذلك، خصوصاً أن "مؤسّسة هنداوي" راحت، أوّل من أمس الإثنين، تنشر أعمال محفوظ، حيث أتاحت لقرّائها، مجّاناً كعادتها، نسخة إلكترونية من روايته "الحرافيش".
من الثورة إلى الوباء، تُعَدّ "الحرافيش" أكثر روايات محفوظ راهنية
وأيّاً تكن طبيعة هذه النقاشات، فإن ما بدأته "هنداوي" أوّل من أمس يُشبه حياة جديدة لنصوص صاحب "زقاق المدق"، خصوصاً أن هذه هي المرّة الأولى التي ستمكن قراءة رواياته وقصصه ومسرحياته بصيغة إلكترونية "شرعية"، غير مقرصنة، وبشكلٍ بعيدٍ عمّا قد يفعله الهواة. فالنسخة الإلكترونية، رقناً وتبويباً وإخراجاً بصرياً لفصولها و"صفحاتها" (التي نتخيّلها ونحن "نتصفّح" العمل)، ترقى إلى مستوى المناسبة، وإلى مستوى "العقد القانوني" مع أسرة محفوظ، والذي تذكره "مؤسّسة هنداوي" أسفلَ تعريفها للكتاب.
وفي غياب شرحٍ لسبب البدء بـ"الحرافيش" بدلاً من أعمال محفوظ الأخرى، لا يمكننا إلّا التكهّن: فالعمل، من ناحية، يُعَدّ من أكثر روايات الكاتب شهرةً، وخصوصاً أنّه استُعيد في العديد من الأفلام السينمائية، كما أنّه قد يكون، من ناحية أُخرى، الأكثر تعبيراً عن البصمة، التي يمكن وصفها بالثورية، التي تركها محفوظ في الكتابة الروائية العربية، وكذلك في الفكر السردي.
كما أنّ الرواية تبدو اليوم بعيدةً عن التقادم: فالجوّ الثوري، جوّ الجياع والغاضبين والناقمين الذي يخيّم عليها، يتصادى اليوم مع أوضاع مصر وغيرها من البلدان العربية، إضافة إلى أنها تُحاكي راهننا - نحن معاصري جائحة كورونا - من خلال وصفها لوباء الطاعون الذي هرب منه بطلُها الأوّل مع أسرته، عاشور الناجي، والذي حمل اسمَه هذا لنجاته من ذلك الوباء.