لا لعالَم يقبل بـ"غرنيكا" جديدة

14 ديسمبر 2023
فسيفساء لعلم فلسطين وجزء من الـ"غرنيكا" لبيكاسو، في مدينة غرنيكا بإسبانيا (Getty)
+ الخط -

الأشلاء، جثثُ الأطفال، الجدار العازل، تدمير المحرّمات من مستشفيات، ومدارس، وجامعات، ومنازل. قطعُ الحياة ومقوّماتها: الماء، الكهرباء، الطعام، الهواء، والأدوية. آلاف القتلى والجرحى. المستوطنات، حصارُ الفلسطينيّين في غزّة وعزلهم. تهجيرٌ وتدميرٌ وتجويع. خرابٌ بكافة أشكاله وتعبيراته. فتكٌ. قتلٌ. إبادةٌ جماعية.

بهذه المكونات والعناصر والأدوات تُرسم أمام العالَم كلّه، أمام الديمقراطيات الغربية والأنظمة العربية الخرساء والعمياء ومجدوعة الأنف، لوحةٌ جديدة بأدواتٍ جديدة. فالرسام يدعى "إسرائيل"، والّلون الذي يستخدمه هو لون القنابل، لون الأحمر القاتم. أحمر الدم الضارب في الأرض الفلسطينية. دمُ الأطفال والأبرياء والنساء والشيوخ. دم الأبرياء والمدنيّين. لوحة القماش ومسرح المجزرة، غزّة.

إنّها لوحة جديدة تصنعها "إسرائيل" أمام نظر العالم كلّه، على غرار تلك اللوحة التي صنعتها النازية، والتي استوحى بابلو بيكاسو منها لوحته "الغرنيكا"، مجسّداً عبرها المجازر والدمار والتخريب كله الذي تعرّضت له المدينة الإسبانية في مقاطعة بيزكايا في الشمال، جرّاء قصف القوات الألمانية والإيطالية التي دعمت الجنرال فرانكو، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. 

حدث ذلك تحديداً في السادس والعشرين من نيسان/إبريل 1937، حين قصف سلاح الجو الألماني النازي المدينة الباسكية، مخلّفاً وراءه القتلى والجرحى. أُجبر السكان على ترك بيوتهم التي راحت تحترق. أجبروا على ترك ممتلكاتهم ومغادرة المدينة تحت القصف.

"أنتم من فعل ذلك" ردّ بيكاسو على الضابط النازيّ 
 

بعد ستٍ وثمانين عاماً من تلك المجزرة التي ارتكبتها القوات النازية، وفي ظلّ المجزرة المفتوحة على الهواء الطلق التي يرتكبها الصهاينة في غزّة أمام العالم، اجتمع في المدينة الباسكية، يوم الثامن من الشهر الجاري، أكثر من ثلاثة آلاف شخصٍ وشكّلوا بأجسادهم فسيفساء بشرياً كبيراً جسّدوا خلاله علم فلسطين. 

هكذا دوّت صافرات الإنذار في ساحة سوق باسياليكو، الذي تعرّض للقصف سابقاً، كما عُرض أيضاً جزء من لوحة بابلو بيكاسو "غرنيكا"، تحت شعار: "لا لعالَم، لا لتاريخٍ يقبل بـ"غرنيكا" جديدة". كل هذا تنديداً باللوحة الدموية التي تصنعها "اسرائيل" في غزّة، وتضامناً مع الشعب الفلسطيني، الذي يحسّون بمعاناته، استناداً إلى تجربتهم التاريخية.

تكشف هذه اللوحة الدموية التي تصنعها "إسرائيل" في غزّة، وتتبّناها الدول الغربية وتعرضها في متاحفها ومعارضها، كنموذجٍ عن إبداع "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" عن استهانة بكل ما هو إنساني، وعن احتقار لكرامة الإنسان وحرياته وحقوقه. شعارات، ويا للمفارقة، قام التاريخ الأوروبي عليها. تكشف أيضاً أنّ النازية لا تزال موجودة، وأن اسمها في هذا العصر الجديد هو "إسرائيل".    

في هذا كلّه، ما يحيّرني وأعجز حتّى الآن عن إيجاد جوابٍ له: من أين تأتي هذه القدرة عند الأنظمة العربية على مراقبة هذه "اللوحة" وقبول هذا الامتهان الذي تمارسه "إسرائيل" بحقهم، وبحق الإنسان العربي؟

مرّة روى بيكاسو أنّه حين كان في باريس، جاء أحد الضباط النازيّين لتفتيش مرسمه، فسأله حين رأى لوحته "غرنيكا": هل أنت من رسم هذه اللوحة؟ فأجابه بيكاسو: كلا، أنتم من فعل ذلك!

المساهمون