لأنّ العشب لا يُفكّر في حديقته" لرولا الحسين: فنٌّ معكوس وضدّيّ

28 يوليو 2024
الرسمة التي تسبق اللوحة (جانب من المعرض)
+ الخط -
اظهر الملخص
- معرض "لأنّ العشب لا يُفكّر في حديقته" للكاتبة والتشكيلية اللبنانية رولا الحسين في "غاليري أجيال" ببيروت يتميز ببساطته وتبسيطه، حيث يعرض لوحات تبدو كأنها اسكتشات أو بروفة أولى.

- المعرض يبرز جرأة في تفكيك الجسد وتجزئته إلى أجزاء مثل السيقان، الأكفّ، الأثداء، الألسنة، والعيون، مما يخلق حضوراً نصبياً لهذه الأجزاء بعفوية وسلاسة.

- فن رولا الحسين يتنكر للفن التقليدي ويعتمد على التهكّم والشعبوية المتعمدة، مما يجعله أقرب إلى الكاريكاتير الصحافي ويخلق عملاً واعياً ومضاداً بتصميم مسبق.

معرض الكاتبة والتشكيلية اللبنانية رولا الحسين، "لأنّ العشب لا يُفكّر في حديقته"، الذي أُقيم مؤخّراً في "غاليري أجيال" ببيروت، يفاجئ ببساطته التي تصل إلى حدّ التبسيط. إنّه أوّلاً بين اللوحة وبين ما يحُول دونها، ما يبدو تقريباً قبلها، بين اللوحة وبين الاسكتش أو البروفة الأُولى أو الرسمة بالتاء المربوطة، الرسمة التي تسبق اللوحة، وقد تكون تمريناً أوّل أو ثانياً لها. نحن هكذا أمام ما يبدو لأوّل وهلة عملاً مدرسياً أو دراسة أُولى.

المعرض، مع كلّ هذه الفوضى، مفاجئ. إنّ له من الجرأة ما يجعله يفكّك الجسد، يبضعه ويتناوله جزءاً جزءاً. إذا كان لنا أن ندلّ على موضوع لافت في هذا الاتجاه، سيكون أوّلاً السيقان، السيقان وحدها مجزّأة مفردة، في ما يبدو حضوراً نصبياً لها. ليست السيقان وحدها، هناك أيضاً الأكفّ التي تتواتر بكثرة أيضاً، لكنّ الأمر لا يقف هنا، هناك أيضاً الأثداء، هناك القُبلة بين وجهَي أنثى ورجل، وهذه تُسفر، للعجب، عن ألسنة مدوّرة مستطيلة. هناك أيضاً العينان مع تلاميح من الوجه. تجزئة الجسد على هذا النحو تتمّ بقدر من السهولة والعفوية، كأنّ الفنانة تقوم بتخطيطات على هامش عمل فنّي لا تزال تُعِد له، وتُقدّم دراسات أُولى له وعليه.

جانب من عرض رولا حسين - القسم الثقافي
(جانب من المعرض)

هناك التبضيع للجسد وتجزئته على هذا النحو. لا يخلو الأمر من فتشية "تصنيم" إذا حاولنا ردّه إلى عنوان أوسع. نحن ندخل هكذا أو نُطلّ على فرويد وحتى على ماركس. هناك تصنيم الساق والكفّ والعينَين والثدي. لا يبدو أنّ الفنّان يفعل ذلك بقدر من التحدّي أو الاستفزاز أو الرفض والتهشيم. إنّه يفعله بقدر من العفوية والسلاسة، بحيث يُخيَّل إلينا أنّه يبدأ من الخطوة الأُولى، أو أنّ اللوحة لا تزال في تمريناتها، لوحة لا تزال قيد الاكتمال. يتراءى لنا، مع ذلك، أنّ وراء هذه السيقان المفردة والأكفّ المجزّأة والعيون والحلمات والألسنة جسداً غير منظور، جسداً من وراء الرسمات ووراء الأجزاء. 

كأنّ الفنانة تقوم بتخطيطات على هامش عمل فنّي لا تزال تُعِد له

إنّ ما يجعل للساق هذا الحضور، وكذلك للأكفّ، وكذلك للأثداء والألسنة، هو ذلك الجسد الكلّي الذي اجتُزئت منه. إنّ عملية تفكيك الجسد وتقطيعه على هذا النحو، عمليةٌ جسدية بالكامل. نحن هكذا نرى وراء الأجزاء جسداً خفياً، بل نحسّ أنّ التبضيع والتقطيع يجعلان جسدية العضو المجتزئ بارزة أكثر. في هذا التقطيع نظلّ نشعر أنّ هذا الجسد المجزَّأ يدلّ هكذا بجسديته، ويُطلقها من داخل الاجتزاء وداخل البتر والتقطيع نفسيهما.

من معرض رولا حسين - القسم الثقافي
(جانب من المعرض)

مع ذلك، يسعنا أن نسأل عمّا هو الفنّ الذي تنحو إليه رولا الحسين. قد تحضر فوراً عناوين كثيرة، قد يخطر أنّ العمل هو مسوّدات تسبق اللوحة، لكن لا شيء في عملها يؤكّد ذلك. إنّ رسمتها متكاملة إلى حدّ كبير، لكنّها مع ذلك تبقى رسمة، بل تزداد إلحاحاً على ذلك. قد يخطر أنّ هذا العمل جَسور، بمجرّد أن يبني ذلك أو يبني عليه. إنّنا أمام عمل يتنكّر للفنّ ولسيمائه، حين يُصرّ على أن يجعل فنّاً ممّا يُنكره أصلاً، وما قام على لعبة تُخفي الجسد وتتنكّر في الأصل لموضوعها.

قد يخطر لمن يلاحظ هذا التعامل مع الفنّ أنّنا أمام فنّ ممّا ليس في الأصل فنّاً، ممّا ينتمي إلى إنشاءات تسبق الفنّ، وقد لا يكون هو غايتها، إنّنا أمام نوع من البوب، أو إنّنا، من ناحية أُخرى، أمام فنّ وهذا اللعب بالأجزاء وتصنيمها. أيّاً كان الأمر، فإنّ ما يفاجئ في معرض رولا الحسين يظلّ يجتذبنا بكونه عملاً وربما اقتراحاً، نوعاً من الانقلاب والرفض. يُمكننا أيضاً أن نفكّر بالفنّ الساذج، لكن مناورة الحسين لعبها المقصود هو التهكّم وشعبويتها المتعمّدة، كلّ هذا يجعل فنّها أقرب إلى التشكيلات الصحافية، أقرب إلى كاريكاتير صحافي. إنّنا هكذا أمام تهكّم من الصعب ألّا نجده واعياً ومضادّاً بتعمُّد وتصميم مسبق. لن نتمسّك هكذا بمقولة الفنّ الساذج، وربما الأصحّ هو الاستعراض والكاريكاتير، ربما الأصحّ الكلام عن فنّ معكوسٍ وضدّيّ.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون