"كوريغرافيا رجُل الضواحي" لأنطوان أبو زيد.. تجريب في التجريب

31 مارس 2024
عمل للرسّامة اللبنانية أوغيت الخوري كالان
+ الخط -
اظهر الملخص
- أنطوان أبو زيد، شاعر وناقد لبناني، يُقدم نهجًا تجريبيًا في "كوريغرافيا رجُل الضواحي"، يجمع بين الصلابة والحرية، مُبتكرًا في تشكيل القصيدة بصور شعرية مُباغتة وسياقات مُتفارقة.
- تبرز قصائده غنى لغويًا وتنوعًا ثيماتيًا، مُمزجًا بين اليومي والغريب، والفصيح والدارج، مع تلاعب بالنسيج النحوي واستخدام الفراغات والصمت كعناصر بنائية، مُعطيًا أعماله طابعًا مُبتكرًا.
- يُعزز أبو زيد تفاعل القارئ مع قصائده من خلال نهايات مفتوحة وغير محسومة، مُخلقًا مساحات من الفراغ والصمت داخل القصيدة، مما يُعطي أعماله بُعدًا تأمليًا ويُبرز استكشافه لإمكانيات اللغة بطرق جديدة.

أنطوان أبو زيد شاعر وناقد وروائي، لا يلقى مع ذلك قراءة كافية، يستحقّها بالتأكيد. الناقد العارف بـ الشعر حاضرٌ في أبو زيد الشاعر، إذ لا نزال نشعر، ونحن نقرأ في مجموعة "كوريغرافيا رجُل الضواحي" الصادرة حديثاً عن "دار راية"، أنّ أبو زيد يذهب بعيداً في التجريب، بل إنّ قصيدته تبني نموذجها الخاص، والخاص جدّاً، في أقصى زاوية مُمكنة. هذه القصيدة هي في كلّ ما فيها، في بُنيانها الصَّلب لكن الحُرّ مع ذلك. إنه يكادُ يكون رُخاميّاً، ويكاد ينبني كهيكل مُتكامل، في حين أنه يُغامر داخل القصيدة. يُغامر ليس فقط بالصور المُباغتة، ولكن أيضاً بالسياق الموصول المُتفارق في الحين نفسه.

يُغامر أيضاً بالنسيج النَّحَوي، يُغامر في المطلع والخاتمة. حين نُراجع قصيدة في الديوان، نشعر بأنّ فيها معماراً من فراغات، ومن حطام، ومن متفارقات. معمار كهذا، لا نجد مقابلاً له في النقد الأدبي، إلّا في لفظة "الغريب". إنه يبني من الغريب وعليه، ما يبدو قطعة منه. بوسعنا أيضاً أن نجد لفظة أُخرى مُماثلة، هي "الإزاحة". إذ نجد قصيدة، هي بكاملها، مبنى من الإزاحة. لا نقل نصباً للإزاحة، هُنا إزاحة في إزاحة، إزاحة على إزاحة. 

"يَجبُ أن نعبُرَ الآن
لنصلَ إلى ما أحبَبناه أوّلَ الرَّبيع
بلهفةٍ عارفة
الصعتر وزهر البلان
يمُدَّان لنَا حبْلاً غيرَ مرئيٍّ
قشّ كثير
وصبّار وخبز النجاة كلَّ يوم".

ثمّة قصيدة تحتفي بالتقطُّع والصمت وتنبني على الفراغات

قصيدة أنطوان أبو زيد الطالعة من تجريب، داخل تجريب، وعلى تجريب. هي أيضاً شتات متساوق من الصور والمعاني، ذات مقوّمات شتّى. إنها في آن واحد، البعيد والقريب، الفصيح والدّارج، هي أيضاً اليومي والمباشر، في حين تكون أيضاً الغِناء، وهي الأشياء، بقدر ما هي الأفكار.

كوريغرافيا رجُل الضواحي - القسم الثقافي

هكذا تستمدّ القصيدة من الشِّعر وغير الشِّعر، تبدو لذلك، من هُنا أو هُناك، مُتحرّكة متشكّلة دينامية. لكن أيضاً، وفي أحيان ما، دامسة شائكة متشابكة متقاطعة إلى حدّ لا يبقى معه إلّا الصدى والظلال، إلّا الحُطام والفجوات. لا تُفاجئنا في القصيدة القطع اليومية، التي تبدو إلى حدٍّ متوازنة مع الغريب والمزاح، وكأنها تُكمله أو تتواكب معه. حين يقول: "لا أَحتاجُ إلى أُعجوبة/ لأعبُرَ إلى حياتي/ التي علّقتُها هُناك على عمود خزَف"، لا تستغرب أن تنتهي القصيدة نفسها: "هُدهُدٌ عائدٌ إلى النُّقطة الأُولى/ النُّقطة التي استغرقت حياتي/ لتنفجرَ أَحتاجُ إلى أُعجوبة/ لإلقاءِ التَّحيَّة على/ مَسائي صَباحي". 

حين يبدأ قصيدة: "عن هذا/ عنِ النَّبات الصَّاعد اليوم تحتَ الصنوبرات"، لا يُفاجئنا أن يليَ ذلك تقريباً: "عن النفَس الرقّاص/ في رُوح تُسرِع قليلاً/ وتَنظر مَن يَنظُر إليها/ لتُسرِع أكثرَ وتُخفي/ غَباء انتشارها الرِّياضي". حين يقول في مطلع قصيدة: "ضع يدَك هُنا/ لا تخَف/ لم يعُد للأشياء ثقلٌ غير محتمل"، لكن في مكان آخر من القصيدة نفسها: "أكسرُ الحجَر وآتي إليك/ مع أنّ المَوتى لا يَسمعون/ ولا الغائبون عن السَّمع كذلك". لكن إذا كان من ميزة لهذه القصيدة، فهي ما يُمكن تسميتُه القَطْع. في داخل القصيدة، وعند كلِّ مقطع أَحياناً، قد نصل إلى هذا القَطْع. هكذا يضع الشاعر خاتمة ليست بخاتمة، يُبقي السطر مفتوحاً وأبتر تقريباً. 

يبدأ على سبيل المثال قصيدة بغناء شجيٍّ: "هل رأيت ظلاماً/ عارماً مثل حُزن الأشياء"، ليُنهيها: "وحدَه ضحِكٌ غامض/ يُجلجل الأغصان/ الكانت له يوماً". ليس هذا المثَل الأفضل لكنّنا نتساءل هنا، كما نفعل عند قصائد كثيرة: إذا انتهت القصيدة هنا؟ عدد من قصائد الديوان تنتهي، حيث لا تنتهي. لكنّ أبيات أبو زيد، إذا جازت التسمية، في مساحات شاسعة هي تقريباً فراغات. هنا مكان للتقطُّع، مكان للصمت. ثمّة فراغات، بل القصيدة قد تتكوّن من فراغات. هذا يذكّر، ومن بعيد أو قريب، بالقصيدة البيضاء. تجريبية أنطوان هي أيضاً هذا الصمت الذي يقطع الكلام. هذا الشعر الذي يتحرّك من داخله، ويترك المجال لكلّ الأصوات وكلّ الأصداء.


* شاعر وروائي من لبنان
 

المساهمون