كلُّ شيء ينهشه النقصان

18 اغسطس 2024
صبحي قوتة/ فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تشابه الأنوثة والذكورة في ظل الحرب**: الحرب أدت إلى تلاشي الفروق التقليدية بين الأنوثة والذكورة، حيث فقدت النساء الخصوصية والأمان وأصبحت حياتهن مليئة بالمعاناة والضغوط النفسية.

- **مشروع الخيام الفندقية للخلوة الشرعية**: يناقش النص فكرة إنشاء خيام فندقية على شاطئ البحر لتوفير الخصوصية للأزواج في مراكز الإيواء، مع التساؤل عن جدوى المشروع في ظل الظروف الصعبة.

- **الحياة في غزة بين الموت والنجاة**: يعكس النص حالة الفوضى والضوضاء في غزة، حيث تتداخل مشاعر البكاء والضحك، ويعبر عن الإحساس باليأس والضياع في ظل الحرب.

يقول شخص ما، تشابهت الأنوثة والذكورة في وظائفها. أبتسم وأخبره أن هذا جزء من قصيدة نزار قباني، فيجادلني أن نزار كانت لديه بلقيس الجميلة، تحفزّه ليكتب الشعر، أما "بلقيساتنا" بسبب الحرب أضحوا "جعفر".

مؤلم أم مضحك، لم أعد أفرق بين الأمرين، هناك كثير من الألم المضحك، والضحك المؤلم، النساء لسن على ما اعتدن عليه من حياةٍ واهتمام، حياة النزوح شاقّة للحد الذي يجعل الشعور بالأنوثة أو رعايتها محض هراء.

تقول صديقة: أمنيتي أن أنام. تنام وتحظى ببعض الخصوصية، تستلقي دون أن يفاجئها دخول أي شخص، تتمدّد وتتمطى مثل قطة مثلاً، غير آبهة بأن هناك اختراقاً لخصوصيتها في أي لحظة.. أحدهم يضحك ويحمر وجهه، يفكر بمشروع خيام للخلوة الشرعية، ما رأيك أن تشاركني؟

الخيام تكلفتها باهظة، وتوصيل المياه أيضاً، ويستمر في سرد فكرته، يحتاج شريكاً لديه المال، اقتطاع مساحة على شاطئ البحر منعزلة قليلاً عن مراكز الإيواء، ونصب ثلاث خيام، تحويطها جيداً مع الحرص على التباعد، وتخصيصها للتأجير، مع الحفاظ على الخصوصية، أسمع ذلك وأقهقه، فلا يروقه الأمر، هل تظنني أمزح؟ يتحدث صاحبي بجدّية، هذا مشروع ناجح، ثمانية أشهر لم يختلِ رجل بزوجته، ونحن نقدم خدمة فندقية شرعية وفقط نستضيف الأزواج بعد التأكد من الهويات وعقد الزواج.

لم يتركني إلا مع وعد بأن أفكر بالأمر، وبينما مضيتُ في طريقي، كان يشغل تفكيري أمر آخر، كم سنة تستمر وتبقى حياة الخيام، الناس لم تستيقظ بعد من هول النكبات المتلاحقة، كل شيء سيبقى معلقاً بيد الاحتلال مثل الريموت كنترول، أغلق افتح، هل هذه أهدافنا؟

من نحن؟ أهدافنا لا تعني أحداً، إنها شيء طفيلي، هل الطفيليات تُرى بغير المجهر؟ تفكيرك متطرف، أقول لنفسي، كن متفائلاً، استمع لما يقوله الدويري وقادتنا الميامين لعلك تصحو من غفلتك.


■ ■ ■


وصلت إلى مكان يتوفر فيه الإنترنت، كلّ شيء ضوضاء، كنت بحاجة لقراءة شيء ما بتركيز، فشلتُ، ذهبت إلى السوق لأطمئن على أبنائي، أصابتني لوثة ما بين البكاء والضحك، بينما أتأمل الوجوه، وأتنقل بناظري بين أبنائي والبسطات والناس، غادرت المكان دون هدف، عدت إلى مكان النزوح، صراخ على اللاشيء، هذا يعترض على ذاك، هذه تلعن تلك، اتهامات صرخات، خلافات، الجنون بعينه يتجسد في كل مكان.

تذكرتُ الصديقة التي تريد أن تنام، أريد أن أفكر، أريد العزلة، خرجت باتجاه البحر، سرقت ركناً قصياً، وتمددت مع أفكاري الجنونية، تذكرت وعدي لصاحبي بأن أفكر في المشروع، هل يليق حقاً إنشاء مشروع خيام فندقية للخلوة الشرعية؟

لا يتناسب الأمر معي من حيث المبدأ، تجب إعادة صياغة المشروع، قهقهتُ كالمجنون عندما تذكرت صياغات التفاوض في الدوحة والقاهرة، والإضافات والتعديلات، وما بين رفض وقبول! فجأة ارتطمت بساقي قطعة من الخشب، أحدهم طارت منه بينما يقطع الأخشاب، نظرت بغضب، تمتم بشيء غير مفهوم يشبه الاعتذار، علي قبول ذلك، هذا أقصى ما يمكن أن يقدم زوج غاضب لا تتوفر له خيمة للخلوة، قهقهت مجدداً، نظر لي الرجل وقال: بيعوض الله.

قفزت لذهني فكرة معدلة، خيام للعزلة! إنه أمر أرقى من خيام للخلوة، أليس كذلك؟

من يرغب بالعزلة؟ لا أعرف هل يقبل صاحبي شراكة من هذا النوع، أم أن خيام العزلة مشروع فاشل، زبائنه من الكتاب والشعراء الفقراء، ولا جدوى منهم!

يقول هاجس: هل تنتهي الحرب؟ يحتاج التفكير لخيمة عزلة. 

ترى ما الأنجع؟ خيمة للعزلة أم للخلوة؟


■ ■ ■


حزيران/ يونيو، إنه شهر مرتبط بالمآسي، هناك أشهر ليست عاطفية، تشبه رجلاً غليظ الطبع يترك ذكرى سيئة لكل من يمر في حياتهم. نحن الآن في لُجّة حزيران، نحن الآن في المنفى، ينتصف الليل، بينما رجل عاقل متزن يفكر في الانتحار. هل يمضي بالطريقة القديمة؟ الشرايين تخذل أحياناً، هذه الطريقة باتت تقليدية. ربما بضع حبات من عقاقير منومة، أو ربما مثل صديق سافر مبكراً، قرر الاختناق فحسب، أحاط رأسه بقطعة من النايلون ونام. الأمر ليس بذلك التعقيد، في غزة بضع خطوات تفصل المرء عن حتفه المجيد.

عليّ أن أذهب إلى السوق، النهايات لها موعد لا يجب أن نفرضه، هناك نص لم يكتمل بعد، هناك لقاءٌ يَنقُص العمرَ، كيف يمضي المرء إلى خاتمةٍ وقد أعطى موعدًا على العشاء لشخص ما! يكفي أن ينتظرك أحدهم لتقرر ألا تموت؟

مددتُ يدي للأعلى، الضوء الخافت جعلها وحشاً يتربص بعنقي، الهواجس في الحرب مجنونة، رأيت أصابعي طائرة صغيرة على الحائط، حركتها بحدة فبَدت كأنها تنقضُّ على هدفٍ ما! ربما تجتث قلبي، أو تعثر على الطفل داخلي فتقطع أوصاله، تلك الطائرات فكرتها مرعبة، حتى تلك التي تبدو أشباحاً وخيالات على الجدران، جميعها تصنع الموت.

إذن هل ينتحر العاقل؟ أغمضت عينيّ لأغيّر المشهد، لكن الذاكرة مكتظة بالصور، الصور تصير لها نصالٌ حادة عندما تصبح شاهد الإثبات الوحيد على الجريمة.

كم موتاً يحمل حزيران؟

يقول صديقي عبر الهاتف: لا يمكن أن تتخيل عدد من رحلوا، ستفاجأ عندما تسأل عن فلان، وعن فلان، الجميع يقف في طوابير الموت، ينتظر فحسب. أتململ قليلاً، يأتي صوته كأنه يبتسم: أعرفك عجولاً، لا تحب الانتظار، لو كانت هناك واسطة أو رشوة لعجلّت الأمر.

لم يعد صديقي رجلاً مرحاً، وأنا كذلك، أصبحت لا أجيد فهم النكات؛ الضحك المصطنع يرهق القلب، وقلبي لديه موعد على العشاء، أخّرته الحرب، هل يُقدِم المرء على الرحيل دون أن يعتذر؟


■ ■ ■


في مثل هذه الأيام يتجهز الناس للعيد، يكون كل شيء مبهجاً، التكبيرات، الزغاريد، الأغاني، زحام خانق لكنه محبب. لكن أمامي الآن زحامٌ بلا معنى، على ناصية المخيم، أقف كمن مسّه السحر، أشعر أن نواحاً ينزف في أذني، وكأنني جزء من مشهد في أحد أكثر أفلام الرعب إثارة، صبيٌ يسرق شيئاً ما ويركض، يندفع نحوه العشرات مثل الزومبي، ينالون منه، يُخال لي أن كلاً منهم أخذ قطعة من لحمه ومضى، هكذا كانت أسنانهم حمراء وشفاههم دامية.

الزومبي أيضاً ضحايا، سبق أن عضّهم ضحية مثلهم، إنها سلسلة من المجرمين الضحايا، والضحايا المجرمين.

يقولون: "على ناصية الحلم قف وفكر"، ما الذي قد يفكر فيه رجل يوشك على الانهيار؟ أعرف رجلاً إحدى مصائبه أن "الغالون" الذي يجلب به الماء لأسرته أصبح مثقوباً. هل تقزمت المصائب في الحرب؟ من السخافة أن تعتبر الثقب أمراً هيّناً، إنها مصيبة، مصيبة انعدام البدائل. لم تتقزم المصائب في الحرب، لكن خسر الناس كل الأشياء العظيمة، تعاظمت الصغائر.

ما زلت حياً، أليس عظيماً؟ يمكن قول الكثير من الشعر حول قيمة الروح، لكن في عصر الزومبي الأرواح بلا قيمة، الفرق بينك وبين الآخرين"عضة"! هل تجيد تحصين عنقك؟

أمشي بحذر، متجنباً الزحام، تذكرت فيلماً عربياً قديماً، كان البطل الطيب يستخدم طاقية الإخفاء ليحقق شيئاً من العدالة، لكن عدوه الشرير عرف السر، سرقها ليعيث فساداً، يسرق المال، وينتقم من الأبرياء الذين ساندوا الطيّب.

أرى صِبيةً ملثمين يضربون أناساً بالهراوات، أفواج من الزومبي تتقدم نحوهم، تصير الهراوة بندقية فجأة وتطلق النار، لكن الأنياب تبرز أكثر، لم يعد هنالك ما يخيف الموتى الأحياء. دائماً في كل فيلم رعب هناك أبطال يقاتلون حتى النهاية، يرفضون الانضمام لقطيع الزومبي، لكن هؤلاء فرصتهم ضئيلة، لأن المخرج يريد مزيداً من الإثارة، يريد للمُشاهد أن يرى أقرب الأبطال يسقط أمام "عضة"، وينضم لفريق الناهشين!

خدعوك فقالوا: "أنت الآن حر"، لكنهم لم يذكروا الجانب المظلم، أنت حر ما بين خيارات ضيقة وضِعت لك، ليست من بينها الحرية! الأمر يشبه أن تُمنح اختيار لون "بدلة" الإعدام قبل إنفاذ الحكم! ما الجدوى إن كان الحكم غير قابل للاستئناف؟
لا جدوى من كل ذلك، لقد وصلت إلى محطتي اليومية، وعليّ أن أكمل يومي، هذا تعبير سخيف، في غزة ليس من حقك أن تكمل شيئاً، هنا غزة، حيث كل شيء ينهشه النقصان.


* شاعر من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون