كلُّ شيء كان في غزّة

10 نوفمبر 2023
من تشييع شهيد فلسطيني في الضفّة الغربية، 2021 (Getty)
+ الخط -

ماذا تبقّى لنا؟ فلسطين مرآة آلامنا. غزّة عنوان أحزاننا. تتوالى المجازر وتشتدّ النيران. يتراكم الغبار الأسود على الوجوه والأنقاض. تفيض الدموع وترتجف الأبدان. تسألنا الأشلاء المتناثرة عما تبقّى فينا من القيم الإنسانية والأخلاقية. فمن المجيب؟

عندما تضيق بي الأرض، أنظرُ إلى السماء. تعود بي الذكريات إلى أيام خلت. الرباط، عاصمة المغرب، في تسعينيات القرن الماضي. في المدرسة الابتدائية، أهداني أستاذ اللغة العربية رواية "رجال في الشمس" لغسّان كنفاني. لا أذكر متى قرأت كنفاني لأوّل مرّة، لكنّني أذكر جيّداً أنَّ كل ما كان يعتمل في صدري من حزن وغضب وإحساس بالعجز والانكسار، إزاء القضية الفلسطينية، كانت بذوره في كلمات كنفاني.

لم أُدرك وقتها الأسئلة والمعاني العميقة التي تطرحها الرواية، لكنّ صوت كنفاني الثائر كان يلملم الجراح وينير الطريق. كانت كلمات كنفاني تفضح العدوان، تسمّي المأساة بأسمائها، تندّد بالصمت والخنوع، تبثّ الحياة في خلايا الأرض والأجساد. بعد بضع سنوات، قرأت "ما تبقّى لكم". كانت لغة كنفاني بالحدّة الثاقبة والحيوية الجامحة نفسها. كانت كلماته تسير قُدُماً بنبرة التحدّي والثقة نفسها المثيرة للإعجاب. كانت صفحة واحدة من كنفاني تكفي لملء الفراغ وجبر الخواطر. كنتُ مثل الكثيرين أحاول تجاوز خيبة الأمل مع كتبه وشخصياته. كان يُخيَّل إليَّ أنَّه واحد منّا، كما لو أنّه جارنا وقد يطرق باب البيت في أيّة لحظة ليعاتبنا على صمتنا ويذكّرنا بمسؤوليّاتنا أمام التاريخ والأجيال.

أعود إلى غسّان كنفاني كما يعود التائه إلى الوطن المفقود

ومثل الكثيرين، لم أنسَ أبداً أبا الخيزران وسؤاله الأخير في "رجال في الشمس": "لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟". بعد سنوات عدّة، أدركت بشيءٍ من الحسرة أنَّ كنفاني كان قد استبق الكثير من أسئلتنا الراهنة. لقد اتّسعت جدران الخزّان لتحتوي المزيد من الإخفاقات العربية.

وعلى الرغم من مرور ستّة عقود على صدور الرواية، ما زال الجسد الفلسطيني يرزح تحت وطأة اللامبالاة الشنيعة والصمت المخزي. ما زالت الشمس الحارقة نفسها تقضّ مضاجع سكّان المخيّمات والملاجئ والسجون. ما زالت الصحراء اللامتناهية تتناقل أصداء فشلنا الذريع وشظايا أحلام لم يُكتب لها أن ترى النور. ما زلنا في الخزّان العميق نفسه، نقيس المسافات الطويلة بين الشعوب والأنظمة، بين غليان الشارع وعجز المسؤولين وصنّاع القرار.

مع غسّان كنفاني، تعلّمت كيف تصبح الكلمات ملجأً من الدمار والفشل، كيف يصير الغضب صورةً صارخةً، والإحباط سؤالاً مُلحّاً. معه، تعلّمت كيف أرفع الرأس والقلم، كيف أجعل من السماء الأفق الشاهد على الألم الذي يتكرّر كلّ يوم.

قبل أيام من استشهاد المصوّر الصحافي الفلسطيني رشدي سراج، كتبَ على صفحته في فيسبوك: "لن نرحل... وسنخرج من غزّة إلى السماء... وإلى السماء فقط". ارتقت ابتسامة رشدي إلى السماء، حاملةً معها شيئاً من ذاكرتنا المرئية الجماعية. رحل رشدي كما رحلت من قبله شيرين أبو عاقلة وآخرون. خرج رشدي من غزّة إلى ما وراء تلك السماء التي ما زالت تمطر النيران وتزرع الخراب، وعادت أرض فلسطين الجريحة لتصرخ في الوجه العربي أنها لن ترحل.

وكما هو الحال دائماً، عدت إلى كنفاني كما يعود التائه إلى حضن الوطن المفقود. في "أرض البرتقال الحزين"، استقرّت عيناي على "ورقة من غزّة". قرأتُ كلمات كنفاني وكأنّه يصف الواقع ويشقّ الطريق نحو الغد: "كانت غزّة، يا مصطفى، جديدة كلّ الجدّة، أبداً لم نرها هكذا أنا وأنت [...] غزّة هذه، التي عشنا فيها ومع رجالها الطيّبين سبع سنوات في النكبة كانت شيئاً جديداً، كانت تلوح لي أنّها… بداية فقط [...] كلّ شيء كان في غزّة هذه ينتفض حزناً على ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، حزناً لا يقف على حدود البكاء، إنه التحدّي، بل أكثر من ذلك، إنّه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة!". 

في هذه القصّة، تملأ الشمس الساطعة الشوارع بلون الدم وتنهش القنابل الأجساد والمنازل. لكن نادية تأبى إلّا أن تُلقي بنفسها فوق إخوتها الصغار لتحميهم من الموت. تنكسر جدران الخزّان ويكتب غسّان كنفاني وكأنه يخاطب ضمائرنا من وراء السماء: "كان يمكن لنادية أن تنجو بنفسها، أن تهرب… أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل… لماذا؟".


* ناقد من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون