كانت زيارتي الأُولى إلى بغداد، أظنّني تأخّرت كثيراً، لذا لن يكون الأمر سهلاً. لن أكون هكذا ابناً عائداً فكلّنا أبناء بعيدون لبغداد. لن تكون لي حظوة الابن المسافر. لقد بقيت على الباب وقتاً، صار الدخول بعده عادياً للغاية. لكن كيف يكون الدخول إلى بغداد أمراً عادياً فاقد الصفة. المهمّ أنني وجدتُ استقبالاً فخماً، وأكاد أقول منمّقاً على المطار. رجلٌ طويل بلافتة كبيرة تحمل اسمي، الذي لسبب لا أعرفه نُقل عن التهجئة الفرنسية في الجواز. بعد ذلك الدخول الى الصالون وانتظار طويل للفيزا، ضيافة قصوى. يمكن أن يكون "للمدى"، الدار صاحبة المعرض أثرٌ في ذلك، هذه الحفاوة بالتأكيد إيعاز منها، ستكون هذه بادرتها الأُولى. لكنك بعد ذلك ستُلاحظ عند كلّ خطوة، ذلك الوجود المتواصل لها.
المعرض الذي يُسمّى "معرض العراق الدولي للكتاب" هو معرضها، إنه يقام مع ذلك في مبنىً حكومي هو "قاعة المعارض"، ليست هذه المرّة الوحيدة التي تحل ّفيها المؤسّسة محلّ الحكومة، فمن الواضح وجودُها القوي، وكونها مؤسّسة حضور متعدّد الطبقات.
يمكن أن نقول في "معرض العراق"، ما نقوله في "معرض جدّة الدولي" أيضاً، إنه نوع من مُنتَزه. هنا أيضاً أمام الباحة، أمام قاعة المعرض، زُمَر تستريح أو تتمشّى. لكن الدخول إلى القاعة الشاسعة للمعرض، يمرّ أمام جدار خُطَّت عليه أسماء الكبار الغائبين في العراق ورسوم لهم. بين هؤلاء شعراءُ كالجواهري، وروائيون كعبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان، ومفكّرون كهادي العلوي، الذي يُقام معرض هذا العام باسمه. هادي العلوي المفكّر الذي سعى، مثله مثل علي شريعتي الإيراني، ليجد صلة بين الإسلام الشيعي وعصر الأنوار الأوروبي والغرب المعاصر. العلوي من جهته زاوج بين الاسلام الشيعي والماركسية، ورحل في دمشق التي كانت منفاه عهد صدام حسين. على الجدار المقابل تعابيرٌ دارجة في العامية العراقية، استعاراتٌ وأمثال وحِكم ورسوم لها. الجُدران والحيطان في مقهى المعرض الذي حمل اسم "كهوة مع كتاب". المعرض يمتدّ في عمق القاعة، معرضٌ من شتى الأقطار العربية. هناك المقولة الشهيرة التي تقرّر أن لبنان ينشر، ومصر تؤلّف، والعراق يقرأ، لا تزال قائمة. هنا يمكن الكلام عن حشد يسيل بين صفوف المعرض، لكن يمكن الوقوف أيضاً عند الندوات والأماسي التي تنعقد على مسرح الصالة، هذه الندوات تستقبل جمهوراً يملأ، أحياناً كثيرة، المقاعد كلها.
لكلٍّ بغدادُه، لكن من أين نبدأ وإلى أين نصل أولاً؟
هكذا يمكن أن نجد في المعرض، داخله وفي باحته، نوعاً من منتزه مديني. بغداد وهل يمكن أن لا نكون، ونحن فيها، في التاريخ. أن لا نكون، ولو من بعيد. لكلّ بغدادُه، لكن من أين نبدأ وإلى أين نصل أولاً؟ من هذا الزحام الذي يحتشد في المدينة ويمتصُّ أوقاتها. في البال جداريةُ جواد سليم، إنها "غارنيكا" بغداد، بل هي هذا الصدور، في الوقت نفسه، عن ماضٍ حيٍّ، ولكن أيضاً عن مستقبل معلن. الرسم بالمعدن، الرشاقة والقوّة ولكن أيضاً الملحمة والانتقال من سرد الى سرد. جدارية فائق حسن تستحقّ كثيراً، إلا هذه المقابلة مع جدارية سليم، التي لا تترك لسواها شيئاً. في شارع الرشيد يُطلّ علينا المعمار القديم، البلكونات المصفوفة تُشرف من فوق، لكنّها أيضاً تنظُر إلينا، نشعر بها وحيدة، لكنها أيضاً تستوقف الزمن، بل تستوقفنا فنحن الآن في لحظة دامغة.
إنها ما وراء الزمن، بل هي نشيده أو همسه. إنها الداخل في الخارج، المكان الذي لا يزال يُتذكّر، الذي يشبه قصيدة طللية بقدر ما يجري تحت أعيننا كأغنية من الداخل. هناك أيضاً الوقفة على جسر الجادرية إذ لا تصدّق ما تراه. هذه الأسراب من النوارس تفور فوق مكان، وكأنها خارجة منه أو تقوله. لكن بغداد ربما تكون أكثر في شارع المتنبي، حيث نجد الاكتظاظ والحشد الذي يغلي تحت صفوف المباني الكالحة، والبسطات التي تعرض الكتب، وكلّ ما ينشر وتخرجه المطابع. حشد لكن في ناحية على دجلة ننعطف، فنجد المتنبي شاخصاً في تمثاله، والناس يدورون حوله دون أن يتوقّفوا عنده. إنه هكذا في وقفته يطلُّ على الشوارع، يشارك المحتشدين نزهتهم، وربّما بؤسهم. في الجانب الآخر رجلٌ يُلقي شعراً على جمهور يردّد وراءه، ثم يخرج نايه ويعزف طويلاً. لا المتنبي يشعر بهذا الحشد الذي يتسلل إليه، ولا بهذا الشاعر الذي يُلقي قربه. إذ هو بعد حياة ملحمية وملحمة كُبرى، يجد نفسه هكذا في هذا العراء.
* شاعر وروائي من لبنان)