بخلاف حقول في البحث الإنساني والاجتماعي ــ مثل الفلسفة ــ تصعب العودة فيها إلى مرجع أو مرجعين مؤسّسين فحسب، فإن علم الاجتماع، كما نعرفه اليوم، يدين بوجوده إلى اسمَيْن أساسيين حدّدا شكله وتركا أثراً كبيراً على الأجيال اللاحقة من المشتغلين فيه: الفرنسي إميل دوركهايم، والألماني ماكس فيبر.
وإذا كان فيبر (1864 ــ 1920) قد انشغل في مسيرته بقضايا الرأسمالية والبيروقراطية والسلطة والهيمنة والاقتصاد وحتى الموسيقى، فإن دوركهايم (1858 ــ 1917) فتح بدوره طريقاً لعلم الاجتماع نحو فهم لمسائل مثل تقسيم العمل، والانتحار، والتديّن، إضافة إلى انهماكه في تطوير منهج بحثي خاصّ بعلم الاجتماع.
عن "المنشورات الاجتماعية" في باريس، صدر حديثاً كتاب "اكتشاف دوركهايم" للباحث والأكاديمي الفرنسي كلود ديدري، ويأتي الكتاب ضمن سلسلة "معارف أوّلية" التي تتوجّه إلى الطلّاب أو الأشخاص غير الملمّين تماماً بحقل بحثي أو بمؤلّفات مفكّر بعينه، بغرض إعطاء مفاتيح لدخول فكره.
بعد مقدّمة حول سيرة عالم الاجتماع الفرنسي والسياق الذي جاءت فيه أعماله، يقدّم المؤلّف فصولاً موضوعاتية حول أبرز المفاهيم والأطروحات التي جاء بها دوركهايم، حيث يحمل كلّ فصل مقتطفاً من كتابات دوركهايم، يليه شرح المؤلّف وتعليقه عليه، مع إحالة إلى قراءات ومراجع أُخرى يمكن لها أن تزيد القارئ معرفة بالثيمة المطروحة.
يشمل العمل مجمل الثيمات والنقاشات التي شغلت المفكّر الفرنسي، من التكاتف الاجتماعي، إلى مكانة الدولة في المجتمع، مروراً بالتعليم، والانتحار، والنقابات العمّالية، والقانون.
ويركّز المؤلّف على شرح عدد من أبرز المفاهيم المجدّدة في تاريخ البحث الاجتماعي، من تلك التي جاء بها دوركهايم، ولا سيّما تعريفه لـ"الحقيقة الاجتماعية"، التي يعتبر أنها "موضوع البحث الخاص بعلم الاجتماع"، والتي تُحيل إلى مجموعة من القواعد والقيود الاجتماعية التي تُشبه "أساليب فعل وتصرّف تفرض نفسها، من الخارج، على الأفراد".
كما يسلّط المؤلّف الضوء على مفهوم الأنوميا، أو اللامعيارية (anomie)، الذي يُشير إلى تخلخل أو انعدام القواعد والمعايير الأخلاقية والثقافية التي تُسيّر عمل مجتمع ما، وهي ظاهرة تتكاثر في فترات الأزمات، وقد انشغل دوركهايم بهذه الظاهرة في مختلف كتاباته، إن كان حول تنظيم العمل، أو الانتحار، أو التديّن، أو علاقة المجتمع بالدولة.