كتاب "كفاحي" المصقول وهريرُ كلبة بيضاء

24 نوفمبر 2023
غارات إسرائيلية على شمالي غزّة، 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 20233 (Getty)
+ الخط -

ترقد "فيفي"، الكلبة البيضاء صغيرة الحجم من فصيلة "تشيه تزو"، في حجر القاضية بالمحكمة المركزية في تلّ أبيب درورا بيلبل، والتي تستجيب لطلب مُخرج فيلم "طنطورة" ألون شفارتز بأن تستمع إلى ملفّات صوتية على اللابتوب لبعض اعترافات جنود لواء "ألكسندروني" في المذبحة التي وقعت ليلة 22/ 23 أيار/ مايو 1948.

هذه الاعترافات تبدو جديدة على القاضية. وضعَت السمّاعة مثل طوق على رأسها، وبدأت تتلقّى شهادات صوتية من الجنود الذين يعترفون هنا، لكنهم أنكروا في ما بعد ورفعوا دعوى قضائية على صاحب أطروحة الماجستير تيدي كاتس الذي سجّل اعترافاتهم على شريط كاسيت، بتهمة تشويه سمعتهم، وحكمت بيلبل لصالح المدَّعين.


محاولة لا تغتفر

وقع كاتس ضحية ترهيب ساحق أدّى لإصابته بجلطة في الدماغ وشلل نصفي، وخوف متواصل من تهديدات بالقتل لعائلته، وسحب شهادته من "جامعة حيفا"، ولم يكن من بُدّ سوى أن يقدّم اعتذاراً عن محاولة لا تُغتفر بفتحه ملفّاً ينبغي أن يظلّ مقفَلاً.

كانت حفلة إعدامات لأهالي قرية الطنطورة على الساحل الفلسطيني، جنوب حيفا، بعد استسلامهم. يتذكّرها القتلة عقب عقود وهُم طاعنون في السنّ يسترجعون صوراً بعيدة وأغلبهم يبتسم أو يضحك، وواحدٌ منهم يحكي كيف نفد منه أوّل مشط رصاص فاستبدله بثانٍ، وكيف جرّ أحدُهم صبيّةً إلى بيت فارغ لاغتصابها.

حالة السعار باتت عامّةً وليست خاصيةَ مذيع يميني

فجأة، يبدو على القاضية بعض التبرّم وهي تستمع للاعترافات الدموية، وتقول إنّها لم تسمعها من قبل ووصفتها بالمؤسفة.

في هذه اللحظة يصدر هرير منزعج من الكلبة. لا نعرف كم من الاحتمالات التي تجعل كائناً غير عاقل يتضايق خلاف ما نتدرّب عليه من تعليمات تربية حيوان أليف في المنزل. إلّا أنّ القاضية فوراً هدّأت من رَوْع كلبتها قائلة: "حسناً فيفي.. هذا حدث في زمان بعيد". أي أنّها قرّرت بحركة "فكاهية" واحدة ألّا يبدو الهرير المنزعج حُكماً على ماضٍ بعيد، مثل أيّ ماضٍ، في أفضل أحواله ممكن أن يكون محلّ نقاش أخلاقي لا حقوقي. لا بل أخلاقي وجمالي، حتى أنه يضيف إلى رصيد القاتل حسنات، بدليل اعترافه بأنّه في تلك الليلة لم يكن صهيونياً جيّداً.

كانت القاضية تتحدّث بصوت خفيض وواضح وتبتسم طوال الوقت. أعربت في لحظة عابرة عن عدم ارتياحها. يبدو عدم الارتياح بدرجاته، مروراً بـ"غير المقبول" ووصولاً إلى "القلق الشديد"، تراثاً إبادياً، بحيث ينبغي لطرف أن يكون قاتل أطفال وآخر مثل سنّيد السينما يُقرّر أنه غير مرتاح.


بيد هرتسوغ

في غزّة الآن شبقٌ إسرائيلي جماعي للقتل، وترهيب جماعي لأيّ صوت منزاح ولو قليلاً.

يرفع رئيس دولة الاحتلال إسحاق هرتسوغ، الأسبوع الماضي، أمام مذيعة "بي بي سي" نسخةً من كتاب "كفاحي" الذي أصدره هتلر عام 1925، قائلاً إنّهم عثروا عليها في غرفة معيشة أطفال شمالي غزّة، بما يؤكّد أنّ أطفال "حماس" يستلهمون للقضاء على اليهود كتاباً نازياً كان مقدّمة للهولوكوست، كما يمضي، في تأكيد جديد على ما سبق أنّ قاله منذ بدء المجازر، في القول إنّ أهالي غزّة ضالعون في دعم حماس؛ ذلك "النظام الشرّير".

سنستنجد بفيلم "طنطورة" مرّةً ثانية. هناك يهود يتحدّثون العبرية، أي أنّ التناظر بينهم وبين هرتسوغ وأشباهه يجعلنا ننتظر ردّ الصاع صاعين من أهل الدار وعلى طريقة "من فمك أُدينك".

الكتاب في يد الإسرائيلي للمعرفة، وفي يد الفلسطيني أداة إدانة

أمّا نحن، فسنواصل كشف أكاذيب فاحشة ونُحرجهم ونحن نعلم أنّ حالة السعار باتت عامّةً طامّة، وليست خاصية مذيع يميني متطرّف في القناة "14" يقول إنّنا سنُذبَح حتى لو كلّ العالم صرخ معنا "فري باليستاين".

يَظهر كتاب "كفاحي" على الشاشة لشخص متواضع البصر والخبرة في نسخة جديدة يلمع غلافُها كلّما تحرّكت يد هرتزوغ، صفحات صقيلة لم تمسّها أصابع من قبل، وهذه لا يمكن أن تكون نسخة كتاب في بيت سُوّي بالأرض، أو على الأقلّ مهجور متصدّعة أركانه يغطّيه الدخان والغبار وهرب أهله هائمين على وجوههم.

كان من الممكن أن تُلقى النسخة في حوش يهودي في تل أبيب أو القدس لساعتَين مع نقطة زيت اعتباطية على الغلاف ورشّة غبار، باعتبار أنّ "الإرهابي" الفلسطيني الصغير ليس لديه تقاليد قراءة كتب في مكتبة ذات رفوف منضّدة وكتابه على طاولة بلون بلوطي معرّق وعلى يساره كوب "آيس كوفي" من الذي يشربه "عبّود" في خياله. إنّه يقرأ إمّا في العراء وينقّط عليه حبل الغسيل، أو على سرير يُصدر أصواتاً وتحت السرير بضع بطيخات.


سعار قيامي

الشخص الطيّب تيدي كاتس، نصف المشلول على عربته الكهربائية، تخلّت عنه جامعة حيفا وعزّزت بخروجها على المبادئ الأكاديمية حكم المحكمة الذي جعل كاتس وحيداً أمام سعار مؤسَّساتي معلومة حدوده داخل مجتمع يضبطه أوّلاً وقبل كلّ شيء طمس أي إمكانية لتوفير أدلّة على الجريمة، جريمة التكوين. لكنّه في فلسطين وجوديٌّ، بل قيامي، خصوصاً إذا كانت غزّة المسرح المشتهى.

أمامنا نسخة أُخرى من كتاب "كفاحي" يُخبرنا عنها آفنير جلعادي، رئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط سابقاً في جامعة حيفا، إذ يدافع عن كاتس قائلاً إنّه كان على الجامعة القول للمحكمة: هذه مسألة نقاش أكاديمي، لكنها وقفت إلى جانب المدّعين. فقد سحبَت الجامعة أطروحة الماجستير من رفوفها، وهناك "مع الفارق بين الأمرين"، كما يضيف، يوجد كتاب "كفاحي" على رفوف المكتبة. ويقصد الرجل هنا أنّكم تقبلون بوجود كتاب لهتلر، مثل أيّ مصدر معرفي ينبغي توافره لأغراض بحثية.


منسوب الدم والفجور

ولأنّ منسوب الدم الفلسطيني يستلزم طردياً منسوباً من الفجور، فإنّ كتاب هتلر يصبح في يد اليهودي مجال معرفة يقظة، وفي يد الفلسطيني مجالاً لحيونته، فلا يصل حتى إلى درجة "فيفي" التي تحملها وتُدلّلها بيد واحدة، إنما كائن هجين نصف وحشي ونصف آدمي وبعين واحدة.

في مكتبتي الخاصة لديَّ خرافات "بروتوكولات حكماء صهيون"، وحتى أراها خرافات ينبغي قراءتها، وعلى يميني كتاب "معجم الأدباء ذوي العاهات"، أفتحه بين فترة وأُخرى على أيّ صفحة دون ترتيب.

ولديَّ كتاب الحكايات المسرحية "لُكع بن لُكع" لإميل حبيبي، أعادني لتصفُّحه من جديد شيخٌ سلفي نريد إهداءه للعالمين بوصفه فخر الصناعة الإبراهيمية، يصف "أبو عبيدة" بأنّه "لُكع بن لُكع" لأنه لم يجاهد بالصمت، فجاءت المعرفة من حجارة تقرع بعضها بعضاً أو تأمل بطيء، ومع إميل حبيبي تجيء من السخرية، وهي معرفة لا تبرهن على شيء بقدر ما تهزّ الذي تكرّس وترسّخ.

سخريةٌ أعلى من رفرفة راياتنا الخفّاقة التي كانت العرب تسميها "هيزَلة" لأنّ الريح تهزل معها.

لديَّ كتيبات "اعرف عدوّك" إن كان هرتزوغ مهتمّاً، وهي قابلة دائماً للنقد والتطوير، لكن على أساس لا يُمسّ منه أنّ قريتي ليست أماتسيا بل الدوايمة، وأنّ الطنطورة هكذا اسمها لا كيبوتس نحشوليم.

هذا ما يجعل الصراع حدّياً وواضحاً وعادلاً، أمّا كتاب "كفاحي" بين يدَي رئيسهم، فهو مبالغة في التسوّل والابتزاز العاطفي، كان من فضل ومنّة غزّة أن تجاوزت الكشف إلى فضحه للناس.

المساهمون