"كتاب الوصايا: شهادات مبدعات ومبدعين من غزّة في مواجهة الموت"، الصادر عن "دار مرفأ"، من فكرة وتحرير ريم غنايم، ونصوص من 17 مبدعاً، بينهم ثلاثة شهداء. الكتاب في عنوانه صاعق، فالوصايا هنا هي ما يكلّف به المرء الأحياء والباقين بعد وفاته. إنّها كلام أخير لمشرفين على الموت، أو يتأهّبون له.
في غزّة اليوم، ليس بين المرء وموته أيّ مهلة، كلّ صباح هو موعد مع الموت، كلّ ساعة هي لحظة أخيرة. يكتب يوسف القدرة: "مع لحظة أخيرة في كلّ وقت، وفي جميع الأمكنة، بدون استثناء". يقول ذلك في نصّ عنوانه "الحياة كأنّها الأبد"، حين تكون الحياة مدموغة بالموت، حين يكون الموت وجهها الآخر، نفهم كيف تصير أبداً. مع ذلك، يقول ألبرتو مانغويل، في تقديمه للكتاب، إنّ هذه الوصايا لا تتّسم بالصفة التقليدية التي نُطلق عليها الأدب، فتعبيرهم (أي المبدعون) كافٍ ليكون بياناً ضدّ الموت. ذلك بالنسبة إلى مانغويل ليس أدباً، فاللغة بالنسبة له أضعف من أن تُعبّر، إنه بيان ضدّ الموت.
لا نظنّ أنّ ثمّة تبايناً بين هذه النصوص، التي لا تتوقّف عن استدعاء الموت، وبين كلام مانغويل، فالكلام المثابِر عن الموت في النصوص، هو أيضاً نوع من مواجهته، بل هو استحضار مستمرّ له بهذا القصد. ذلك أنّه وحده الآن أمام الكلّ، وحده الباقي للنازحين في دورات، تكاد تكون عبثاً خالصاً، وفقداناً للمعنى. الأمر الذي يستدعي أن يكون المرء دائماً في لقاء معه، لقاء هو اختبار وتجربة، بقدر ما هو كشف للنفس وامتحان لها.
قلّما نجد هنا كلاماً في السياسة، فما يحدث يتخطّاها
حين يقول الشهيد رفعت العرعير، الذي قضى مع عائلته تحت القصف: "إذا كان الموت لزاماً عليّ/ مع ذلك فإنّه واجه بالأمل، واجه بالحكاية"، ذلك لم يُبعد الموت لكنّه حوّله، لقد جعل منه قصيدة للشاعر الشهيد. في موضع آخر تقول نعمة حسن: "حاولت مسامرة الموت، رسمت خطّة لإلهائه". ذلك لا يمنعها من أن تستطرد إلى القول: "جميعنا أشلاء هنا، الحفر كثيرة الآن في غزّة بفعل الطائرات، ولكنّي لا أجد مكاناً لأُخبّئ أطفالي".
هذه هي اللعبة الفظيعة، لكن الموت مع ذلك يبقى لعبة ما، لعبة بقدر ما هو قدر، بقدر ما هو لحظة لا مناص منها، بقدر ما يبدو اليأس نفسه حبل النجاة. "أقيم حفل غناء فاخر، ولا تنسوا كاتشاب دمنا، ولا فلفل قهرنا"، تقول أمل أبو العاصي اليازجي. إنّنا هكذا، كما يقول حسين حرز الله في نصّ بعنوان لافت "على قيد ما يشبه الحياة". يقول "علينا أن نبكي واقفين"، لكن البكاء وقوفاً ليس هو وحده الوصية، فهذا مصعب أبو توهة يصل إلى حدّ الوقوف ساخراً: "إذا كنت سأموت، فليكن موتاً نظيفاً".. "أبقوا ستراتي/ وسراويلي/ حديثة الكيّ/ على حالها في الخزانة". السخرية السوداء، هذا اللعب مع الموت، تبدو في ما يشبه النكتة. علي أبو ياسين يكتب: "سوف تتحدّث مع عائلتك عن استشهاد أبناء عمومتك كأنّك تخبر زوجتك أنّك خارج للتسوّق".
هل يمكن أن نعتبر ذلك جزءاً من "بيان ضدّ الموت" كما يقول مانغويل، أم أنّ الأمر ليس أكثر من نفي للذات، من درجة عالية من الامحاء؟ يقول ناصر رباح: "لم يعُد الموت يهمّنا، أنت لم تعُد شاعراً ولا حتى إنساناً، حين تحمل أولادك من بيت إلى آخر، مثل قطّة مذعورة". الوصية هنا ترتدّ على الذات، إنّها ليست سوى سيرة مضادّة، سوى خسارة مداومة. تكتب أمل أبو العاصي اليازجي: "مزّقوا كتب التاريخ، وهي تخبر أولادكم أنّه كان هناك شعب قاوم خمسة وسبعين عاماً، بدون أن يفقد الأمل، قبل أن يقتله الأمل". لقد قتلنا الأمل، قتلتنا الشجاعة، قتلتنا مقاومتنا. إنّها التراجيديا الكاملة، إنها التاريخ المضادّ.
مع ذلك، هناك هذه العودة إلى اليوميات، إلى التفاصيل، إلى الحياة الصغيرة. تقول هناء أحمد: "أتشبّث بحبل الله، أدعوه ألّا أموت لليلتين فقط، لفترة قليلة". إنّه استدعاء للحظة الأخيرة، لخيط أمل لا يَقتل، لموت نظيف، إنها وصايا من الضفّة الأُخرى، من نصف الموت، لكن أيضاً من نصف الحياة.
الموت وحده هو الشاغل، والمسألة كلّها قد تكون في أشكال مواجهته. ندخل إلى الكتاب من رسمة لهبة زقوت، التي قضت مع ابنتها، الموت الذي حصد العرعير مع عائلته، وسليم النفّار مع عائلته. قلّما نجد كلاماً سياسياً، فما يحدث يتخطّى السياسة، إنه أن تكون أو لا تكون. مع ذلك نجد في كلمة الشهيد سليم النفّار عبارة سياسية، دعوة إلى البراءة من العرب، لكن حتى هنا تبدو السياسة وجهاً آخر للموت، نعياً ومحواً فحسب.
* شاعر وروائي من لبنان