مات مارسيلو دي بوستيلو بورديوس من قرى كراكاس! اليوم الخميس، صباحاً، وجدوه تحت سريره الحديدي في الغرفة رقم 15 بمصحّة "سيبا"، في الطابق الثالث من مخيم اللاجئين، بمدينة سينت نيكلاس، القريبة من أنتويرب.
لم يكن أحدٌ من الطاقم الطبي الموجود في المكان (والطاقم بالمناسبة مجرّد طبيب عام وممرّضة) يعرف أنه مهيّأ لجلطة دماغية، وعليه، فإن موظفات الصليب الأحمر، الجميلات، الرشيقات، دائبات النشاط والحركة، ارتبكن واختلّ توازن بعضهن، نتيجة قلّة الخبرة مع الموت، مع أنهن مدرَّبات لكلّ الطوارئ.
لماذا نقول كل هذا؟ لأن الموت، مهما يكن، هو حدث نادر في المخيّمات. ولأن مارسيلو كان شابّاً لم يتخطّ سن الثلاثين بعد. وهو رجل بسبع صنايع والبخت ضايع، كما يقول المثل العربي. إنه لا يتوانى عن فعل أي شيء يطلبه منه موظّفو المخيم. ادهنِ الحيطان المتقشّرة يا مارسيلو، فيفعل مارسيلو.
تراه معلّقاً على السلّم طوال النهار، يحكّ القشر بورقة البرداخ ويدهن.
نظِّفِ الحمامات يا مارسيلو (وما أدراك ما عملية تنظيف الحمامات بمخيم لاجئين!)، فلا يخرج مارسيلو منها إلا وهي تبرق من النظافة.
كلما سألته: "كومو ستاس أميغو؟"، قال وكأنه يعلن معجزة: "بيين، بيين"
مارسيلو جاهز لكلّ طلب، وعلى كل طلب يرد: "بالي، بيين". حتى أنه شاع بيننا القول إنه أنشط رجال وفتيان المخيم، على الإطلاق.
فهؤلاء اللاتينيون، سبحان الله، يعملون في أيّ شيء، مقابل أيّ أجر؛ المهمّ هو أن يعملوا. ناهيك عن أنهم ــ سواء من وجهة نظر الموظّفين أو حتى بقية اللاجئين ــ آخر اللاجئين الذين يمكن أن تصدر عنهم مشاكل، بخلاف البعض من جلدتنا، مثلاً. وكلّ هذا مقابل 2 يورو لساعة العمل (وهو أمر عموماً لا بأس به، فساعة العمل في المخيمات التابعة للفاسدة العنصرية مؤسّسة "فيداسيل" بيورو واحد فقط).
ومارسيلو مضى عليه ثلاث سنوات ونيف وهو ينتظر فوق الخشبة، ورقَ اللجوء، العزيز جدّاً في بلجيكا على كلّ لاتيني أسمر الوجه وشرق أوسطي، أو أفريقي أو أفغاني. ومع أنه من فنزويلا، والكلّ يعرف ما جرى للبلد الجميل على يد أميركا القبيحة، إلّا أن محقّقي الحكومة في بروكسل يتلكّأون، ويطيلون زمن اللاجئ في الانتظار، على أمل أن يفرّ اللاجئ من تلقاء نفسه.
واليوم أخذوا جثة مارسيلو لجهة مجهولة، وأمامها خياران: إمّا للحرق أو للدفن في مقابر بلا أسماء. أمّا اللاجئون، زملاء المرحوم مارسيلو، فبعضهم سمع الخبر وأشعل سيجارة الحشيش أو الماريغوانا، فوراً؛ والبعض منهم أخذته الصفنة والتحديق في أي جدار كان أمامه في تلك اللحظة، لحظةَ إعلان الخبر.
رحم الله الرجل الفنزويلي، الذي، لسبب ما، لم يولد أوكرانياً، ولهذا مات لاجئاً مقهوراً، مع أنه كلما سألته: "كومو ستاس أميغو؟"، قال وكأنه يعلن معجزة: "بيين، بيين".
فهل كان مخطئاً وهو يجيب على كل سؤال، قائلاً "بخير"؟ أم هي عادة الغلابة اللاتينيين، وقد اجترحوا المعجزات، حتى وصلوا للبرّ الأوروبي، على أمل النجاة، وما من نجاة؟
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا