قهر الرجال

30 ديسمبر 2024
لاجئ على متن قطار مهجور في مدينة سالونيك اليونانية، تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يتناول النص موضوع "المرئيون اللامرئيون"، وهم الأفراد المهمشون في المجتمعات الذين تُختزل معاناتهم في أرقام دون التركيز على قصصهم الشخصية، خاصة في ظل الأحداث الكبرى مثل الحروب.
- يسلط الضوء على الانكسار الذكوري في المجتمع السوري، حيث يعبر الرجال عن انكسارهم بشكل غير مباشر عبر الكتابة الموضوعية، متجنبين البوح الذاتي الذي قد يُظهر ضعفهم.
- يشير إلى أن سقوط النظام السوري كشف عن الانكسار المخفي، داعياً إلى تدوين الانكسار الفردي في الأدب والفن كجزء من إعادة الإعمار.

المرئيون اللامرئيون، الحاضرون الغائبون، الموتى الأحياء، المجهولون المستترون حين يُعلَم غيرهم. هُم الجوهر وما كان نافلاً؛ هُم الغائبون حين يُقال "وقُتل عشرون بينهم 3 نساء وأطفال"؛ مَنْ لا يحظون ببؤرة تركيز بعينها، فهُم الضحايا "الطبيعيون"، في القتل والاعتقال والإخفاء قسراً واللجوء والمنافي. ولأنّهم طبيعيون لا نفترض أهمّيةً أكبر لهم، ولا نركّز على معاناتهم، إلّا لو مرّ خبر أو مقطع فيديو، أو صورة.

هُم يبكون أيضاً، ويتفجّعون، وينكسرون. بل لعلّ انكسارهم أكبر لأنّهم "الأقوى" و"الأصلب"، ومَنْ لا يُفترَض بهم الانكسار العلني. تربطهم علاقة ملعونة بـ البلاد، مثل علاقة بعشيقة قد تخطّتهم ولم يتخطّوها، تخلّت عنهم ولم ينسوها، كرهتهم وبقوا على حبّهم القديم لها. يواصلون حياتهم، يتناسون الخواء الذي خلّفه البُعد والجفاء، وحين يحسّون بالانكسار يخفون أنفسهم قبل أن يخفيهم الآخرون.

نتسلّى أحياناً بـ"الريلز" في تطبيق إنستغرام، ويلفتنا تضاعف المقاطع المنتزعة من المسلسلات السورية حيث تتكرّر عبارة "تعبت" أو "اختنقت" على لسان شخصيات ذكور. ونتساءل: هل أدركت الخوارزميات تعبنا واختناقنا فطرحت مقاطع أكثر لأنّنا ركّزنا على أحدها، أم إنّنا ركّزنا على أحدها لأنّنا تعبنا واختنقنا حقّاً؟ لا إجابة دقيقة، كما لا إجابة دقيقة عن سؤال البيضة والدجاجة، وعن السؤال السوري المديد: أنحن ملعونون لأنّنا سوريون أم إنّنا سوريون لأنّنا ملعونون؟ 

كسر سقوط النظام حالة التواري؛ فبتنا نرى الانكسار عياناً

الأمر الوحيد الثابت والأكيد هو الانكسار الذكوري؛ التعب والاختناق. ثمّة من احتضن تعبه واختناقه عبر السنين، وثمّة من تجاهله فتراكمَ قطرة فقطرة إلى أن وصل مرحلة الانفجار. ما من ذكَر سوريّ لم ينكسر اليوم، مهزوماً كان أم منتصراً، داخل البلاد أو خارجها، من فقد أحبّاء ومن لم يفقد، من شاهد مقاطع فضفضة التعب والاختناق ومن لم يشاهد.

اللافت أنّ هؤلاء الذكور أنفسهم ينفون انكسارهم حين يبوحون بالكتابة. تركوا الانكسار للكتابة الأنثوية، وفضّلوا الكتابة الموضوعية المحايدة التي تروي انكساراً غير شخصي، انكسار الآخرين. وكأنّ تدوين الانكسار سيُفقد الانتصار بهجته، أو القضية أهمّيتها، أو الوطنية ألقها. وحتّى حين نلمح انكساراً في الأدب السوري سندرك فوراً أنّه انكسار جمعي، انكسار الحزب أو الشلّة أو الفريق أو الجماعة أو الجيل، لا انكسار الفرد. وكأنّ نزع الفردانية من الأدب انتزع معه كلّ بوح ذاتي، أو ربّما عمدوا إلى تمويهه بانكسار آخر "أكبر"، كانكسار البلاد أو الأهل أو الأصدقاء.

ولكن يبدو أنّ سقوط النظام كسر حالة التواري تلك. بتنا نرى الانكسار عياناً؛ ها هُم رجال يبكون وينشجون ولا يكتفون بدموع تأبى تجاوُز قفص العينين. يبكون منفاهم وبلادهم، يبكون أحبّاءهم وجيرانهم، يبكون الشهداء والمعتقلين، ويبكون بهجة بالانتصار. غير أنّ التغيير ليس تغييراً كلّياً برغم انكسار التواري. بقي الانكسار جمعياً، وكأنّ غمامة "العيب" ما تزال مخيّمة على الجميع، على من انكسر وعلى من يراقب المنكسرين. هؤلاء لا يبكون أنفسهم وانكسارهم، بل يبكون الآخرين، يبكون التراجيديا السورية، التغريبة السورية، الانتصار السوري. بل لعلّ بهجة الانتصار ستكبتهم أكثر هذه المرّة، إذ لا يُسمَح للانكسار بالاستمرار، فنحن نبني البلاد اليوم، ولا بدّ من التفاؤل ودفن جميع المشاعر الشخصية النافلة التي تبدو أقرب إلى رفاهية أمام جحيم آلام الآخرين. 

يُفترَض بالأدب والفنّ أن يبوحا بما يخفيه الواقع، أو يحاول مراوغته. يجب أن نرى ذلك الانكسار ونتلمّسه في الأعمال القادمة. يجب تدوين الانكسار الفردي قبل الجماعي، انكسار السوري قبل انكسار سورية، انكسار الذكر قبل انكسار الرجال. 

كنتُ أكرّر دوماً، في لحظات اليأس التي حكمتنا في السنوات الأخيرة، بأنّ هذه البلاد لا مستقبل لها. عن أيّ إعادة إعمار نتحدّث، وعن أيّ بناء بلاد إذا كان الجيل الذي يبني قد تلاشى؟ جيل العشرينيات إلى أواسط الأربعينيات اختفى وذاب بين السجون والمنافي والمقابر والجيوش المتصارعة، ولم يعد للبلاد من يبنيها. هل تغيّرت الحال اليوم بعد سقوط النظام؟ ليس تماماً، فالبلاد تُبنى بالملح، بالدم والعرق. ولا ينبغي لنا تجاهُل الضلع الثالث في ثالوث ملح البناء هذا: الدموع. ليست دموع البهجة أو الخلاص وحسب، بل دموع الانكسار. انكسار الرجال، قهر الرجال الذي لا بدّ لنا من أن نستعيذ بالله منه، ولكن من دون أن ننساه. ستُبنى البلاد بانكسار رجالها، كي لا تعيش تغريبتها مرّة أُخرى.     


* كاتب ومترجم من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون