بات شائعاً التحذير من اعتياد الحرب، ومن اعتياد المشهد الفلسطيني الذي صار لصيقاً بالتهجير والقتل، لصيقاً بهمجية ووحشية الصهاينة وعجز العرب وعُقمهم. لكن عدا عن اعتياد المشهد، وخفوت نبرة الإدانة وتسليم البشر بضعفهم إزاء قوّة كبيرة، هي قوّة العدوان من جهة، وقوّة القمع من جهة ثانية، فإنّ ما تفعله حرب الإبادة، التي لها أكثر من ثلاثة أشهر ضدّ شعب أعزل، أنّها أظهرت إلى جانب القدرة على اعتياد المشهد المؤذي لأناس مغلوب على أمرهم، نوازعَ الإنسان المهزوم بصورة تستدعي نقداً لمآل الإنسان الخاضع لأنظمة تسلبه كرامة القول وحريته.
ممّا يرصده المراقب، تحوُّل المعركة التي تحدث في فلسطين ضدّ البشر والحجر، إلى الفضاء العربي خارجها إلى معركة بين مقولتَي الانتصار والهزيمة، وكلتاهما مفردتان تحتاجان إلى تعريف يختلف بين بلد وآخر، باختلاف شروط العيش. لكن كثيراً ما تعوم هذه النوعية من الأسئلة الخاطئة في البيئات المُستَنْقَعَة، حيث يغيب الفعل الحقيقي، وتغيب آليات الاعتراض الفعلية. وهذه مسألة عامّة في البلدان العربية بتنويعات مختلفة، هي تنويعات على فنّ منْع القول.
بالطبع هذا الوضع القائم، ليس مصادفة، وإنّما هو نتاج سياق طويل يمكن أن نقع على بدايته مع تقسيم التركة العثمانية. فهذه الأوطان التي صار لها حدود ومواطنون بهويات قُطرية، لم تكن في البدء أكثر من تركة. والتركة تعبيرٌ عمّا يتركه المرء بعد موته. وبصورة ما، ولادة هذه الأوطان لم تكن لتَحدث لولا موت العثمانيّين. وإن كان لراعٍ في مطلع القرن العشرين أن يبدأ رحلته من غزّة وأن ينتهي في ديريك أقصى شمال شرق سورية مروراً بحوران والبادية السورية، فإنّ هذه الرحلة اليوم ضربٌ من المستحيل، وإن حدثت فستكون إحدى أعاجيب الدنيا.
مسألة الحرّية وعيٌ بإنسانية البشر وفاعليتهم في القضايا الكبرى
الأوطان التي نعيش فيها، هي ذكرى ميت. هذه بداية يمكن أن يُفهم منها سياق الموت الفلسطيني وسْط العجز العربي. إذ إنّ قضية فلسطين تعود إلى مرحلة الاستعمار، وهي آخر حلقاته في المنطقة العربية بالصورة التقليدية. لكن فلسطين اليوم كلّها، لا غزّة فقط، عرضة لأن تصبح أرض الكيان المدعو "إسرائيل". وهذا يحدث أمامنا، من غير قدرة حقيقية على الفعل والتغيير أو حتى الاعتراض. غياب القدرة هذه، تفسيرها يوجد في حقل السياسة أيضاً، بالضبط في مسألة الحريات والمواطنة في البلدان العربية.
وفي الأدب السوري، كما في تجربتَي المسرحي سعد الله ونوس (1941 - 1997) والروائي هاني الراهب (1939 - 2000)، تلاقى مسار التحرّر الوطني مع مسار التحرّر القومي. نرى هذين المسارين في أعمالهما، بصورة يبدو معها تحرير الإنسان العربي ضرورة لتحرير الأرض العربية. ومسألة الحرّية لا تَظهر فقط في تداوُل السلطة، إنّما هي وعي بإنسانية البشر وفاعليتهم في القضايا الكبرى.
ربّما تبدو هذه اللغة قديمةً، يلجأ إليها المرء، أمام نتوء خطاب محلّي يُصرّ على اقتصار ما يحدث في فلسطين على أنّه انتصارٌ لتيار على آخر. فما يحدث، ما نراه؛ أنّ الفلسطيني عرضة للقتل بصورة يومية في غزّة وفي الضفة وفي أراضي الـ 48. قضية فلسطين برمّتها على المحك. والاختراق الذي صنعته هذه الحرب هو اختراق عالمي لصالح القضية الفلسطينية، لصالح عدالتها وإنسانيتها.
وفي العالم توجد ردّة فعلية ضدّ سلوك "إسرائيل" التي أعادت الهولوكوست النازي ضدَّ مدنيّين وأبرياء. أمّا ما يحدث في جوار فلسطين، فلا يختلف عمّا يحدث في أيّ مكان من العالَم. فلسطين قضية الشعوب والأحرار. ودعْم استمرار حرب الإبادة أمرٌ صار يربك حتى الحكومات الغربية. لكن هذا حدثَ بفضل العالم الحرّ، لا بفضل تيار يهتف ضدّ آخر.
* روائي من سورية