يكشف الفنان العراقي زياد جسّام (1974)، في معرضه "قاع النهر"، الذي انطلق في الرابع من أيار/ مايو الجاري في قاعة "المعهد الثقافي الفرنسي" ببغداد، عن منطقةٍ جديدةٍ من مناطق اشتغاله الفَنّي، تتمثَّلُ بالقاع، الجزء المَخفيِّ من النَّهر الذي قد يستحيلُ على العامَّةِ اكتشافُ ما بداخله بسهولة، بل لنقل إنَّها الأسرار التي تترسَّبُ في الأعماق ولا يبحث عنها أحد ولا يصل إليها.
هذه الترسّبات، التي يتناولها في معرضه المستمرّ حتى الحادي والعشرين من هذا الشهر، تتمثَّلُ حصراً بالأدوات الإنسانيّة ذات الاستعمال اليومي، مثل الآلة الكاتبة، الدرّاجة الهوائيّة، البوق، الكتاب والبوصلة، الفانوس والقارب وأشياء أخرى؛ إنَّها مستهلكات الإنسان على الأرض، وما أستخدمه لقضاء حاجاته. ولكن السؤال هنا: أين قاع النهر من هذه الأعمال؟
لا ينقل الفنان القاع، كما نتخيَّله، بطريقةٍ حسيَّةٍ مباشرة إلى السطح الذي هو موضع الرؤية، إنَّما نستشعر وجوده من خلال الأداوت التي تجلّى فيها، فما يترسَّبُ في القاع ويستقرُّ فيه، بطبيعة الحال، يتآكل وتتغيَّر هيئته وتناله الطحالب. هذه الثلاثيّة الحاضرة في مجمل الأعمال المعروضة هي التي بيَّنت صورة القاع، وما يمكن أن يحدث لأيِّ شيءٍ سيستقرُّ فيه. فالرائي يلمحُ الصدأ على الأدوات، والمادّة الخضراء التي تمثِّل الطحالب، والهيئة التي تبدو عليها هذه الأشياء جرّاء بقائها الطويل تحت الماء وما قد يُسببه هذا البقاء من عوامل، إضافةً إلى التربة التي هي أصل هذا القاع، وعليها تستقرُّ المادّة وتُوجَد بوجودها.
هل هو حنينٌ إلى ما تتركه اليد الإنسانية خلفها؟
توحي الأدوات إلى وجودٍ سابقٍ للإنسان، لاستخدامه إياها، وهذا الوجود لم يعد له حيِّز، إذ بوصول هذه الأدوات إلى القاع، يعني غياب أصحابها، سواء هجروها أو ماتوا وتركوها على هذه الشاكلة، لكنَّه عموماً يثير في النفس شيئاً من الحنين إليها، إلى ما تتركه اليد الإنسانيّة خلفها، فلا يبقى دليل على وجودها سوى ما يمكن أن يصل إليه غوّاص برتبة فنانٍ إلى قاع النهر ويكشف عن تاريخٍ يكمن في العمق.
في مجمل الأعمال التشكيلية العراقية التي قُدِّمت خلال النصف الأول من العام واستطعنا معاينتها، لم يقترب أحد من الفنانين من المادّة المكوِّنة لأعمال جسّام، الذي يتفرّد بها هنا: مادة تمثَّلت بتشكيل صورة الطّحلب والتُّربة وقِدَمِ الأشياء، حتى لتبدو كأنَّها نسخةً حقيقيَّةً عمّا يمكن مشاهدته في الواقع. ويأتي هذا النَّسخ من الطبيعة نتيجةً لإتقانٍ في التَّشكيل، واستخدام المادَّة بالطَّريقة التي لا تبدو فيها مبالغة أو شحَّة في ما يتمثَّل القاع ويُصوِّره. فمثلاً، تبدو الطحالب في مواضع غامقة، وفي مواضع أخرى أقلّ خضرةً، وهذه الدقَّة في تمييز الألوان لا يأتي من باب الصدفة، بل هو ما تفرضه طبيعة وجود هذه الموادّ العضوية وتكاثرها على الأشياء وبجانبها.
تكاد تتشابه الأعمال، مع اختلاف الأدوات. وعلى ما يبدو، أراد جسّام أن يُقدِّمَ قطعةً واحدةً من القاع المخفيّ، حتى لتظهر بهذا التشابه والتقارب، وكأنَّ كل الأعمال أخذت من موضعٍ واحدٍ من العمق ومن ثمَّ وُزِّعت في أماكن مختلفة داخل صالة العرض. هكذا يشعر المشاهد أنَّه أمام خزينٍ منسيٍّ ومُستخرج للتوِّ من مكانٍ يصعب الوصول إليه.
تأخذنا الأدوات المُستخدمة في المعرض إلى جوانب خفيَّةٍ أخرى، بعيداً عن دهشة المشاهدة وسؤال الكيف وماذا استخدم. فهذه الأدوات تبدو وكأنَّها تُركت على حين غفلة. فالصندوق الخشبي المفتوح للعبة الطاولة، والجرَّة التي تندلق منها القروش المعدنية، والدرّاجة الهوائيّة، والقارب الخشبي، والبوق، وغيرها، كلّها تدلُّ على أنَّ أحداً ما كان يستخدمها، وفجأةً توقَّف عن ذلك، وليسَ من إيحاءٍ على فناءٍ حلَّ بهم، أو هروبٍ من شيءٍ غير متوقَّع. وجودها بهذهِ الطريقة يفتح الباب على تأويلاتٍ كثيرة تترك أعمالُ زياد جسّام حرّيةَ تخيُّلها للمتلقّي.