في وداع حيدر حيدر

06 مايو 2023
حيدر حيدر في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

ينتمي أدب الروائيّ السوري حيدر حيدر، الذي غادر عالمنا أمس الجمعة، إلى فرع من الأدب السوري زاوَج بين الماركسية النضالية من جهة والروح الرعوية المتفتّحة والمنفتحة على المستقبل من جهة أُخرى؛ فأبطاله ليسوا أولئك المناضلين الستالينيّين الذين وقعوا في فخّ الدولتية والشمولية البائدة وعبادة القطيع الجماهيري، ولا هُم عبيد الأرض والموروثات ودماء القبيلة، بل هُم الأفراد الذين لا يزالون يحتفظون بكلّ عنفوان وقوّة إنسان الجبال والسهول وينابيع المنحدرات ومكامن الصيد البرّي.

بطلُ حيدر هو الإنسان أخو الإنسان الآخر، بلا معبد جمهوري أو قومي، ولكنّه ينتمي بكلّ قواه إلى الشعب، يشقّ أمامه درب المستقبل الأفضل، وهو أيضاً الإنسان الحرّ الصيّاد: الرجل الأدونيسي الوعل، والسوسنة البرية - ديانا الغابات والأحراج.

إنّه الإنسان الفرد، الزاهي، الشعبي من دون انحطاط أعمى نحو أعماق القَبَلية الغابرة، التقدُّمي من دون وضاعة الجُبن والتسليم المطلَق بأيّ اتجاه تُحاول سلطات الأمر الواقع سحب التاريخ إليه... إنّه، ببساطة، الإنسان غير الامتثالي، الذي لا يُسلّم نفسه، لا لعقيدة جماهيرية ولا لعقيدة دينية، ولا يحني رأسه للطواطم وطلاسمها، ولا يخرس خوفاً من اللعنة.


■ ■ ■


في رواية "شموس الغجر" (1997)، على سبيل المثال، يُقدّم حيدر، في النهاية، لمحةَ أمل لاسترداد بدر نبهان شيئاً من نفسه وعنفوانه الناحي صوب المستقبل، عائداً من كهوف القروسطية التي ارتدّ إليها بعد سجنه السياسي. إنّه الأب المثالي الذي انهار بعد هزيمة حزيران 1967، والذي تصفه ابنته بأنه "بروميثيوس الزمن الماضي، المفتتن بتشي غيفارا، وأبي ذرّ الغفاري، وحمدان قرمط، وعلي بن محمّد قائد ثورة الزنج، ولينين، أراه الآن وهو يطوف فوق سفوح عرفات في مكّة، يجري بين الصفا والمروة، يرجم إبليس بالحصى، معتمراً ثياب التحريم إيّان موسم الحجّ في رحاب خادم الحرمين الشريفَين". في هذا المشهد قدّم لنا حيدر مأساة جيل كامل عرف الحلم والكرامة وسُموّ الأمل قبل أن يعرف السقوط الحُرّ من علياء الوهم العربي.

يصوّر حيدر في أعماله إنساناً "من سلالة الريح وصفاء الينابيع"، ولكنه أيضاً من سلالة الدمار والدماء والهزيمة والموت المجّاني.

في "شموس الغجر"، يُفجّر ماجد زهوان نفسه في نهاية المطاف. وماجد زهوان، الذي يشترك مع ماجد أبو شرار - صديق حيدر - في الاسم الأوّل، هو رؤية الأخير للمستقبل القائم من بين حطام الماضي. ولعلّ حيدر، في هذه اللعبة الروائية- النفسية، التي يمكن أن نرى مثلها في أعمال أدبية أُخرى، تراثية ومعاصرة، (السندباد البرّي والسندباد البحري مثلاً)، يوجّه إصبعه إلى أنّ الإنسان والأمّة، وهما يرتديان حلّة أُخرى، يتجاوزان واقعهما نحو أبعاد جديدة، و يعودان مرّةً أُخرى ليُحقّقا ما لم يتمكّنا من تحقيقه في مرورهما السابق على مسرح التاريخ؛ فماجد أبو شرار يُقتل غيلةً وغدراً، ولكنّ ماجد زهوان هو الذي يذهب بقدمَيه إلى الموت، لعلّه يجد لنفسه في تجاوُز نفسه، وطناً ومكاناً، ويتمكّن، ولو على قياس فرديّ متناه في الصغر، من العثور على شيء من حقّ تقرير المصير الذي يكاد يختفي في سرديات الجماهير الهائجة والقوى المحلّية والدولية الكُبرى.

■ ■ ■


مع حيدر حيدر، يتعرّف القارئ إلى ماركس ولينين والديالكتيك وحركة الأزمنة وتَمَرحُل التاريخ، ويستعيد كازانتزاكيس وعنفوانه الكريتي، فيقرأ أوديسّا عربية وفلسطينية هذه المرّة، بدل أن يبقى أسير التغريبة واللجوء والمنفى والموت الأسود.

ثار حيدر على المثالية- الامتثالية، بحسب تعبيره، وعلى تاريخ الأمّة الرسميّ وأبطالها الرسميّين، وعلى الروابط الدموية والرجعية، ولكن من دون أن يُفرّط بذرّة واحدة من تراب المكان الذي ينتمي إليه؛ فهو يرتقي مع شخصياته الروائية الجبال المليئة بالأحراج والنباتات العطرية ويهبط الوديان ذات الصخور الرمادية التي ما زالت تحمل رائحة البحر وأحلامه منذ انحساره عن الساحل الشرقي للمتوسّط في العصور الجيولوجية الغابرة، ثم يقف في وسط "وادي جهنّم" قريباً من بلدة القدموس ويقول: "لا لن أموت كمداً".

رحل حيدر حيدر في لحظة عربية تاريخية لعلّه لم يتخيّل يوماً أنّه سيكون شاهداً عليها حين كتب معظم رواياته ثم مقالاته المجموعة في "أوراق المنفى" (وكنت أتمنّى لو تمكّنتُ من الحصول على كتابه الأخير الذي صدر حديثاً بعنوان "يوميات الضوء والمنفى"). ولكنّ كتاباته لا تزال في جوهر رسالتها معاصِرةً كلّ المعاصَرة كما لو أنّها كُتبت أمس، ومعها يبقى سؤالٌ حاسم لا ينفكّ يهدر في الآذان المصغية: ما هو المستقبل الذي يريده العرب لأنفسهم؟


* شاعرٌ وكاتب ومترجم سوري مقيم في السويد

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون