في الدراما التلفزيونية والسينما، وفي الواقع؛ عرفنا حكاية المفتاح الفلسطيني، مفتاح العودة. وهو باختصار، مفتاح البيوت الفلسطينية التي هُجِّر أهلها منها بسبب جرائم عصابات الاحتلال، وقد أخذَ الأهالي مفاتيح بيوتهم باعتبار أنَّهم عائدون بعد أيام أو أسابيع. وكان الخروج بالنسبة إليهم مسألة أيام، ثمَّ صارت العودة حلماً. وقد طوى حلم العودة عدة أجيالٍ من الشعب الفلسطيني. والأيام، عَهْدَ الحروب، صارتْ سنواتٍ مع فقد البشر مفاتيح مصيرهم.
المفتاح الذي يعود إلى بابٍ لم يعد موجوداً، إلى دارٍ لم تعد موجودة، بعد أن احتلَّ كيانٌ غاصب الأرض والبيوت؛ مفتاحٌ لزمنٍ ضائع، لزمن مفقود ومُستَلب، لزمن توقّف، وقد أوقفه الاحتلال، أوقفه الخروج من المكان، سلب المكان، وسلب حقّ البشر في أن يشيخوا في منازل طفولتهم. لقد توقّف الزمن الفلسطيني مع الأَسْر، وهو أَسرٌ شاقّ، دخلتهُ فلسطين كلُّها، بجبالها وبيوتها وبحرها.
ينتمي إلى النماذج الإنسانية التي تجترحها المأساة الفلسطينية يوميّاً
في الرسم أيضاً عرفنا حكاية "حنظلة"، الشخصية التي ابتكرها الرسّام الفلسطيني الشهيد ناجي العلي (1936 - 1987)، وهي شخصيّة تروي توقّف الزمن، فحنظلة بقي في العاشرة من عمره، شاهداً على زمانِ الاحتلال، لكن عبر تجسيده مراقباً خارج سلطة الزمن نفسها، بدا أنَّ الطفل الفلسطيني ينتمي إلى قوّة أعلى، إلى قوّة الفنّ والعدالة، وهي قوّة تشرف على المشهد، تطلُّ على المشهد، وتنتظر أن ينتهي المشهد. حنظلة يعيش في زمنٍ أثيري، لا يقوى البشر على التعامل مع زمنه، أو تفكيكه، وأحياناً حتى تخيّله.
من ذلك الزمن الأثيري الخاص، تطلُّ أيقونة ناجي العلي، لا كشاهد فحسب، وإنَّما مع توقّف الزمن الفلسطيني، ينظر حنظلة إلى الاحتلال، إلى واقع الاحتلال وجرائم الاحتلال، التي توازت بصورة مريرة مع العجز العربي؛ بوصفه قوَّة أعلى، بوصفه أداة الفنَّان لقهر لحظة التوقّف في الزمن التي فرضها الاحتلال.
اغتال الصهاينة ناجي العلي في لندن، خارجَ أرضه، لأنَّه اجترحَ رمزاً. فهذه مسألة تحدث مرّات قليلة خلال حياة شعبٍ ما؛ أن يجترح فنّانٌ رمزاً يختصر أو تتكثّف فيه، آلام شعبه. واجتراح الرمز، أمرٌ لا تعوزه فقط قوّة الموهبة، وإنَّما عدالة القضية وعُمق تأثيرها في الوجدان.
لم يغفر الصهاينة للعلي عبقريّته في اختزال الزمن الفلسطيني، وفي تعريف الزمن الفلسطيني على أنَّه زمن متوقّف، بانتظار عودة الفلسطينيّين إلى بيوتهم، إذ يكتب العلي في تعريف حنظلة: "وُلد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظلّ دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السنّ غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بَعدُ في العاشرة، ثم يبدأ بالكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنَّه استثناء، كما أن فقدان الوطن استثناء". تعريف بالوضوح والبلاغة، مثل هذا، يقول إنَّ فقدان الوطن بالطريقة التي فقد بها الفلسطينيّون وطنهم، ليس سوى بترٍ للزمن، وانقطاعٍ في خيط العيش. الرمز الذي ابتكره ناجي العلي، يقول إنَّ الزمن لا يمرّ وأنا خارج أرضي، ومضيّ الزمن منوط بالمكان الذي سطا عليه الاحتلال.
لو تغافل المرء - رغم صعوبة ذلك - عن النماذج الإنسانية التي تجترحها المأساة الفلسطينية يوميّاً مع استمرار حرب الإبادة... فإنَّ أبلغ ما يشرح فعلَ الاحتلال في بتر العلاقة مع المكان، هو مفتاح العودة، والطفل الذي سيبقى في العاشرة إلى أن يعود إلى أرضه، ويتابع نموَّه. ويُمكن للمرء أن يتخيّل حنظلة عائداً، متخلّياً عن طبيعته الأثيرية، ينزل من عَرشه الفنّيّ، بيده المفتاح، يخطو في غزّة والجليل والقدس، نرى ملامحه، مبتسماً رغم القهر، كما لو أنَّه أُنزلَ عن صَليب، ليفتحَ بيوت الفلسطينيّين جميعهم، يفتحها للحرّية، ولمن هُجِّرَ منذ عقود طويلة، مُنتظراً أن يستقيم الزمن الذي خرّبه الاحتلال.
* روائي من سورية