في برّ فلاندرز

13 مايو 2023
جدارية للفنان البلجيكي جوناثان باويلز في أوستند بإقليم فلاندرز، نيسان/ أبريل 2023 (Getty)
+ الخط -

سلاماً من أرض الأحياء الموتى، في برّ فلاندرز، إلى الرفيق غونزالو من قرى جنوب الدومينيكان.
لقد عاد لتوّه (أي منذ شهرين) إلى مسقط رأسه، بعد ست سنوات أمضاها هنا، لاجئاً معلقاً على خشبة الصليب، وكان يحلم بورق من البلجيك غير ورق التواليت.

سلاماً له ولأمثاله ممن ذاقوا بإمعان، ظلمَ الدولة على الجلد، فقد أخبرني أمس، في مكالمة، أنه "مهما يكن ومهما كان، فالحقيقة أني، كما قالت العمّات والخالات، أبدو أكثر سعادة من أي وقت مضى، وذلك لأني قنعت من الغنيمة بالإياب، كما أشار عليّ شاعركم الحكيم"؟

لقد ابتسمت، طبعاً. فلهذه المقولة قصة بيننا مضت، فذات ظهيرة، ونحن نعمل في جني البطاطا السوداء، في منطقة تابعة لمدينة لير، تمتد عبر حقول شاسعة، تحت صقيع فظيع، ترجمت له بيت الشعر إياه، بالتقريب، وهو حفظ الشرح واسم الشاعر، وها هو أمس، يثبت قوة ذاكرته، بعد سنوات من حدوث القصة؟

هل مقدر على السمر يا غونزالو أن يقنعوا من الغنيمة دوماً بالإياب، بينما اللاجئون البيض، يُفتح لهم صدر المنزل، رحباً وسعة، ولا عزاء للسمر والصفر والسود، لأن العالم الغربي ليس مصاباً بعمى الألوان، من سوء الطالع؟

لم يبنون الجدر العازلة في اليونان؟
لم يضعون الدرك الألماني الرياضي العضلات ليبهدل اللاجئين واللاجئات دون أدنى رحمة؟ 
لم حكومة الأغارقة ذات اليمين، تدفع ضعاف اللاجئين للانتقام والتنكيل باللاجئين أنفسهم؟
هل اللاجئون إلى أوروبا هم طاعونها اليوم، ونحن لا ندري؟

كيف انقلبوا بين يوم وليلة من كونهم وقودَ العمل وخزان المستقبل، إلى  طاعون؟
لم سويسرا والنمسا والدنمارك من ذوات الروائح العفنة في سياق كهذا؟
هل نعتب عليهم أم على بلداننا التي طردتنا؟

لمَ يصير اللاجىء هنا تابعاً لشبحه من الماضي؟ لم يجتر بعض الهناءات النادرة هناك، ولا تقوم له قيامة هنا، إلا بشق الأنفس، بعد بهدلات جمة؟
كلها أسئلة دونما جواب شاف يا طوّافي الضفاف؟


■ ■ ■


الرحيل لبلجيكا؟ 
لقد مضى وقت طويل منذ سادت هذه الفكرة، كيما تفصل قلبي عن برشلونة: قطب معظم ما أحب، قاطبة. 
بين فلاندرز وإسبانيا عموماً، الثقافتان مختلفتان. هنا مجتمع رأسمالي متطور ولا يرحم. هنالك العكس.
ومع ذلك، فقد ساء الأمر أكثر، عندما وصلت فلاندرز، وأنا أعضّ أصابع الندم!

كانت تلك مجرد خطوة أولى نحو التخصص الفائق في الأرق والإحباط والتفكير الدائب بالانتحار.
لا يمكن لواحد مثلي أن يتكيف مع رأسمالية كليّة كهذه، كانت تأسست هنا، وكان الغرب الصناعي والتجاري بدأها في كل من بريطانيا وفرنسا وفلاندر، تقريباً بالتزامن. 

هذه الرأسمالية المرتبة القاسية التي تدفع نحو عزل جميع مجالات الحياة عن جوهرها. 
بحيث أننا لنضع الاهتمامات والمعرفة في مقصورات مانعة لتسرب الماء ـ منعاً للتواصل. 

أعيش مع مجتمع كل فرد فيه له اختصاص. وأسأل: إلى أي مدى، إذا انفصل الناس عن تعقيد وثراء العالم من حولهم، يمكن إنشاء أي شيء يفيد هذا العالم أو يحسّنه أو حتى يرضيه؟
أحياناً أراهم نوعاً من الحمقى، والله.

أرى التخصص المفرط ينتج حمقى: أشخاصاً لا يعرفون شيئاً خارج عالمهم الصغير ـ يعانون من قصر النظر، فلا يركزون على أكثر من شرنقة عملهم المحدود.
يا له من عار، وقبل كل شيء، يا له من ضيق أفق!


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون