فيلم السرقة والتطبيع: البحث عن فضيحة

27 يونيو 2022
"الأقل كفاءة يشعرون دائماً بالتفوّق" اقتباس لـ سيمون دو بوفوار، ريو دي جانيرو 2020 (Getty)
+ الخط -

ما يقع لدى مُعاينة سرقة أدبية، أو اتّهام بالسرقة، والتحايُل والغِشّ، هو ما يقع تحت رعاية هذه الشمس التي لا جديد تحتها. التاريخ تواريخ إذن، منه حاصلُ جمع مُؤامرات ومنه حاصل جمع سَرقات.

أمّا تاريخ تسميم الحياة الثقافية، فمن الصعب، وليس المستحيل جمعه. يحتاج إلى رشح جبين، منذ أول قصيدة قِيلت في مدح شخص طبيعي يأكل ويشرب وينام، فجعله الشاعر، مقابل صُرّة مال، إلهاً لا شريك له، مروراً بشخص ذكره التوحيدي في إحدى ليالي "الإمتاع والمؤانسة" منَعه الحاكم من تقبيل رأسه، لأنّ على شَعره دُهن (يعني جِلْ) فقال له: "والله لو على رأسك رطل خراء لقبَّلته"، وصولاً إلى حفلات تكريم كاتب مصري متّهم بالسرقة والتطبيع مع العدو وبالفيديو.


هواء الحاضر

لذلك سنذهب إلى الهواء الحَاضِر الذي يلفُّنا. وفي زعمي أنّه على هذه الدَّمامل الجُغرافية العربية "ما يَستحقُّ الحياة"، حتّى ونحنُ نعاين لحظةَ انحطاط ثقافي، غير مَسبوقة من ناحية واحدة فقط، وهي أنّها بثٌّ حيٌّ ومباشر. فحكاية الكاتب الذي اتُّهم بالسرقة في رواية "ماكيت القاهرة"، يُمكن أن تكون واحدة من حكايات، لها ملفٌّ شخصي يُفتَح ويُطوى، دون أن يكون ثمّة وِزرٌ على آخرين. فكلّ نفسٍ وازرةٍ تحمل حِملها على عاتقها. مع فارق الأحجام والمقامات، أليس هذا ما يواجهه المخرج الإيراني الشهير أصغر فرهادي الآن؟

من الصعب وليس المستحيل جمع تاريخ تسميم الحياة الثقافية


فرهادي وزاده

تعالوا نتفرّج على المشهد الإيراني. فأخونا فرهادي الذي، حرفياً، يحصد الجوائز حصداً، ومنها جائزتا أوسكار، استُدعي للتحقيق قبل أزيد من شهرين، بتهمة سرقة فيلمه الأخير "بطل" من الشابة آزاده مسيح زاده، وكانت طالبة في ورشة أدارها.

فيلم الشابة، وهو وثائقي، وموجود على "يوتيوب" يتطابق في صُلبه مع فيلم فرهادي الروائي. وهناك مِطحَنة نقاش حول أحقّية المخرج الشهير في استعمال أفكار ورشته، مقابل من يرون أنّ الشابة تعرَّضت للاستباحة والسرقة، والقضاء هو الفيصل. بيد أنّ هذا في حكاية "ماكيت القاهرة" لم يحدثِ البتّة. فمن قدّموا ما يعتقدون أنها براهين على السرقة، لم يواجَهوا بدفوعات تفنّد، وتقول على لسان الكاتب أو مناصر لكتابه، إن هذه الاتهامات مطعون فيها. لماذا؟ لأنّه أولاً كذا وثانياً كذا وثالثاً كذا.


بلاكين الفيسبوك

ما جرى هو حفلاتٌ من الردح والتنمّر والمكايدة على بلاكين الفيسبوك لكلّ من تجرَّأ وانتقد. وحين أظهرت الفيديوهات كاتب الرواية، وهو جالس بتهذيب مُفرِط بجانب الإسرائيلي، ويُصفَّق له بحبور، لم يُصدر ولو حرفاً واحداً حول سوء الفهم، أو الالتباس، أو عدم القصدية، بل مزيدا من الشتائم وتشويه السمعة، لخّصها والد الكاتب (وهو مترجم معروف) في منشور يقول فيه إنّ صاحب الفيسبوك يهودي، فلماذا أنتم جالسون هنا؟ وكان هذا النص الوحيد الذي جاء رداً على التطبيع مع العدو، بينما ملف السرقة اكتفي بالقول إنّه حسد حاسدين.


الحاسدون

ما قضيّتنا إذن، نحن الحاسدين والذين لدينا حسابات في فيسبوك مع أن صاحبه يهودي، والذين نحبّ بيت الشعر: "تُعيّرنا أَنّا قليلٌ عديدُنا... فقلتُ لها إنّ الكرامَ قليلُ" مع أنّ صاحبه يهودي. لا، وجاهلي أيضاً. ونقرأ كافكا وتشومسكي وفرويد، ونتابع فيلماً لداستن هوفمان حتّى آخره، مع أنّهم كلهم يهود؟

في شأن الحسد والحسّاد، فإن آخر شخص منّا - نحن الثدييات - يفكّر بوضع خرزة زرقاء للحماية من العين، هو الكاتب العربي الذي يرى اسمه على كتاب هو لا يعرف، أو للدّقة يخشى أن يعرف أنّه مطبوع منه على ماكينة "ريزو" مائة نسخة فقط، وحين تنفدُ النسَخ يَفرحُ بطبعة ثانية ويصبح المجموع مائتين، متوهّماً أنها ألفان، موشّاة بما يسمى "ردمك"، وهو عنوانه الجديد في مقبرة الأرقام التي يظنّها الكاتب أرقامَ البخت السعيد. يلوكُ الكاتب بفمٍ واسعٍ رقمه مردّداً "ردمك ردمك ردمك" كأنّه فعلٌ رباعي على وزن "فعلَل"، أو بالإنكليزية "رِدماك" على وزن سندويشة "بيغ ماك".


مفسدو الحفلات

وفي شأن التطبيع، الذي يتّسع في اتجاهين: الوقاحة والجُبن في ردّ الفِعل، فإنّ مَن يُحاولون صدَّه، ليس لديهم سوى كلمة شرف، ومع ذلك، ما زالوا قادرين على إفساد الحفلات، وإقلاق الراحة والمنامات، وخصوصاً في مصر، وهو شأنٌ أكثر نشاطاً من أيّ بلدٍ عربي. هذه هي مصر الحَيوية الشعبية، حيث يستطيع كاتب أن يجلبَ معه مجاميع من المطيّباتية والهتّيفة، ما يُثير انتقاد عرب آخرين ويرون فيها غريزة مصرية، ولكنّها هي ذاتُها التي تجعل الفضيحة بجلاجل، فيسألونك من بعدُ، لماذا يحب العبادُ مصر؟


ما يُخيف

ما يُخيف في هذه الجولة من تَسميم الحياة الثقافية ليس السرقة، ولا حتّى التطبيع مع العدو، بل في تقديم أمثولة لأيِّ شابّ مُقبل على الكتابة تقول: اسرق ثم طبّع ولا تهتم، لأنك ستصبح مشهوراً أكثر، وستصدُر لك طبعة شعبية من كتابك المتّهم بالسرقة، وستحلُّ ضيفاً على برنامج تلفزيوني تسألُك فيه المذيعة أسئلةَ مساج وتدليك للأنا، دون أن يكون من بينها سؤال: بماذا تردّ على الضجّة الجارية الآن؟ وما قصّة هذه الفيديوهات مع الإسرائيلي؟ هل هي صحيحة؟

سأعيدُكم في المقابل إلى عام 2018 حين تفجَّرت قضية رواية "بيت حدد" للسوري فادي عزّام، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة من "البوكر العربية" في موسم 2017 - 2018. وهي رواية متّهمة بالسطو على يوميات فيسبوكية لطبيب سوري في سجون النِّظام.

أمثولة للجيل الجديد: اسرق وطبّع تصبح نجماً


سِجالات

إذا جمعتَ ما كُتِب من سجالات حامية الوطيس بدءاً من مقال الكاتب السوري إسلام أبو شكير الذي فتح الملفّ، فإنّك ستحصل على مادّة تتضمّن تدافُعاً بالحجج والآراء. فالكاتب ينهلُ من شهاداتٍ ووثائق حقوقية وتسريبات عن السجون ليبني عمارته الروائية. غير أنّ موقف الكاتب عزّام، ولجهة حقوق مُلكية تتعلّق بشخصِ طبيبٍ مُعتقل سابق ولديه نصوصه كان ضعيفاً.

لم يكن سهلاً تمرير أخذ منشورات الطبيب بالقصّ واللصق، مع أنّ هناك إمكانية مُتاحة لتغيير الصياغة كلّياً، والتأخير والتقديم والحذف والزيادة.

لا نعرف خاتمة هذا الملف، سوى أن الكاتب اعتذر عن عدم استئذانه الطبيب المُعتقَل، ولم نسمع بأن هذا الأخير رفع قضية تطالب بحقوق معنوية تجعله شريكاً في الـ"ردمك"، أو حقوق مالية إذا فتح الله طاقة السعد على الروائي، مثلما فتحها على مؤلّفة "هاري بوتر"، التي تقعد على مئات ملايين الدولارات، ومتَّهمة أيضاً بالسرقة. كما أنّنا بانتظار إمّا أن تفوز الشابة الإيرانية زاده على أستاذها فرهادي، فتشاركه في أرباح فيلم "بطل" التي فاقت حتى الآن 2.5 مليون دولار، أو يُبرَّأ فتُسجَن سنتين مع 74 جلدة، كما تداولت أنباء.


تهريجٌ سيّئٌ

تجاهلوا الرقم الزوجي الغامض 74، الذي لا أعرف كيف احتسبوه، هل بقياس طول الشابّة زائد وزنها والقِسمة على عدد أفراد عائلتها ناقص عدد أفلام فرهادي؟ ليس لدي علم. كلّ ما أعرفه في حكايات مثل هذه، أو رواية "بيت حدد" التي سُقتها أنّ المتّهَمين، بفتح الهاء، يحاولون ما استطاعوا مُمارسة حقّهم في دفع التهمة. إنّ من العيب أن يُدانوا بالسرقة، وسيقاتلون من أجل إثبات نظافة اليد والضمير. أمّا حكاية "ماكيت القاهرة" على مواقع التواصل، فكانت أسوأ أنواع التهريج، إذ كان عنوانها منذ بضعة أشهر هو عنوان فيلم "البحث عن فضيحة" لعادل إمام وميرفت أمين، مع فارق جمالي لصالح الفيلم ذي الإخراج المتواضع. فهناك على الأقل ستمتّع عينيك بجمال ميرفت وأزياء السبعينيات الفاقعة.

يُثير مصطلح الكولونيالية مَهابة مؤسسات يُديرها أمّيون 

إنّ هواء الحياة الثقافية لم يعُد يُسمِّم، كما تعوَّدنا في المثل الشعبي "فطيسة لا تعكّر بحراً"، بل إنّه الآن أمام حكاية نموذجية لقراءة هذا الهواء، الذي يفسد ويُفسد أكثر، على مستوى جماعي ومؤسَّسي. في سنوات ماضية، خبِرنا من يبحث عن الشهرة عبر منع كتابه. فالرقيب الذي يفرِق شعره على جنب، وينظر للناس من فوق النظّارة، يعثر على سطر يقول مثلاً "إنني أريد أن أسكر في شوارع الجنّة"، فيمنعه، ويسير اسم الكاتب سيْرَ المَثل وتُضرَب له آباط الإبل، وقد يكون تافهاً: الكتابُ أو صاحبه.

أما أمثولة "ماكيت القاهرة" فهي بحث لاهث وواثق وراء الفضيحة، حتّى يكاد الكاتب ينادي في الناس: "افضحوني فضحكم الله". وهذا ما ينبغي التنبُّه إليه، لأنّه يجري أمام آخرين، يرون طريق الشُّهرة تستعيد شخصية بالَت في بئر زمزم، لا لشيء إلّا ليذهبَ مثلاً بين القبائل، حتى لو بشتمه وتحقيره.


الأسئلة

من يفوز بالجوائز؟ ومن يقطع الطريق إليها؟ من يرعَون هذا الكاتب وهذه الكاتبة؟ وإذا أُثيرت قضايا في التحايُل والسرقة، ما موقف هذه المؤسّسة أو تلك؟ ما مواصفات هذا الإعلامي الذي يستضيف متّهماً بالسرقة والتطبيع، فلا يسأله إلّا أسئلة من طراز "هل تحب الملوخية بالطشّة أم بدون؟".

وبالطبع، نحن لا نأتي على سيرة النقّاد الذين منهم من كتب ربما عن "المثقّف المُشتبك" فيرون بدورهم هذا العوار المؤسَّسي والانحطاط الثقافي، ومقابل مصالح ودعوات من طراز "آكل شارب نايم" يفضّلون الكتابة عن الرواية ما بعد الكولونيالية. إذ يَزنُ مصطلح الكولونيالية وحده نصف كيلو غرام، وهو يثير مَهابة المؤسسات التي يُديرها أشخاص من طراز مسؤول ثقافي وقّع شيكاً، مكافأة للسيد أبي فراس الحمداني الذي توفي قبل 1054 عاماً عن قصيدته "أراك عصي الدمع".


الكلاب والقافلة

في هذا التسميم على قدم وساق، من علاقات عامّة وسُلطة موظّفي مؤسّسات ثقافية وهتِّيفة، لا يجدُ "المترجم المعروف" والد الكاتبِ المتّهم بالسرقة والتطبيع إلّا القول "القافلة تسير والكلاب تنبح". وبالمطلق، لا يُعدّ نباح الكلاب أمراً مُشيناً، بل كان على الدوام مشهداً عاطفياً وجمالياً في إثر القافلة. ولَكَم كان الكلبُ عزيزاً حتّى أنّه في الحضارة النطوفية قبل بضعة عشر ألف سنة يدفن بعد موته إلى جوار صاحبه. إن الإهانة أيها السيد هي في اعتبارها قافلة، وقد سمّتها العرب قافلة، أملاً بأن تقفل أي تعود، لكنّها هنا في حالة السرقة والتطبيع ليست سوى راحلة... راحلة باتجاه واحد نحو الحضيض.

المساهمون