فيردي ومعاركه الخفية: في تحويل الفن إلى أداة مقاومة

20 أكتوبر 2020
فيردي في رسمة لـ أدريان ماري ضمن جريدة فرنسية 1880
+ الخط -

مع بيتهوفن وموتسارت، يعدّ فيردي أحد أكثر الموسيقيين حظوة لدى المؤرّخين، فمن السهل إحصاء عشرات الدراسات والسيَر التي تناولته، ناهيك عن الأفلام الوثائقية والروائية. بالتالي، فإن صدور سيرة جديدة عن جيوزبي فيردي (1813 - 1901) لا يمكن أن يكون حدثاً في حدّ ذاته، رغم ذلك فإن للسيرة التي أصدرها المؤرّخ الفرنسي سيلفان فور إضافتها، ويعود الفضل في ذلك إلى الزاوية التي اختارها حيث جعل عمله أقرب إلى سيرة سياسية للموسيقار الإيطالي. وقد نجد في هذا الكتاب - نحن كقرّاء عرب - ما هو أكثر أهمية فقد ركّز المؤلف على عملية تحويل الفن إلى أداة مقاومة، ضدّ الاحتلال النمساوي لإيطاليا في حالة فيردي، وضدّ أيّ اعتداء في أي مكان أو مرحلة تاريخية.

حمَل الكتاب، الصادر عن منشورات "روبير لافون" الفرنسية هذا العام، عنوان "فيردي.. غير الخاضع" بما في ذلك من إشارة صريحة إلى أن زاوية النظر لن تكون فنية موسيقية بحتة، كما جرت العادة بتحليل مواطِن العبقرية في أعمال فيردي على خلفية ربطه العجيب بين الثقافة الشعبية والثقافة العليا، وقدرته على حصد الإعجاب من معاصريه داخل إيطاليا وخارجها، ليظلّ إلى زمننا أهم مؤلّف موسيقي ضمن فن الأوبرا.

يحضر كلّ ذلك في كتاب فور على مستوى ثان من المشهد، ضمن بناء أوركسترالي لعمله جعل فيه موقع الصدارة  للسياق التاريخي للعالَم الذي عاش فيه فيردي، حتى أنه يُظهر جميع مراحل هذا السياق وصولاً إلى اكتماله ليلعب دوراً في تاريخ بلاده قلّما يعترف به المؤرّخون الرسميّون فهم لا يسجّلون إلا أسماء الملوك والعسكريين. فيردي بالنسبة إلى فور هو أحد آباء إيطاليا الموحّدة. كان زعيماً في جبهة الفنّ، لكن الزعامة هناك غير مرئية.

فيردي نموذج لمواجهة الأكثر عنفاً بالأكثر هشاشة

يصدّر فور الكتاب بالعبارة التالية: "لم أتوقّف أبداً عن خوض المعارك". عبارة تبدو كأن قائلها قائد عسكري وما هي إلا مقولة موسيقيّ لا يملك إلا الأنغام الطريّة أسلحةً. أما هذه المعارك التي تحدّث عنها فهي ليست اشتباكات مع المحتلّين أو مع خصوم السياسة، بل مع الموسيقى نفسها، أو أيّة مادة يشتغل عليها الفنان. وبعد الانتصار في هذه المعركة سيكون من السهل المرور إلى أي تحدٍ في الواقع؛ تلك هي فلسفة فيردي.

في الزمن الذي انفتح فيه وعي فيردي، كانت إيطاليا بلداً مجزّأ بين دويلات تتحكّم فيها القوى الكبرى؛ مرة هي تحت سطوة الإسبان أو تهديد الألمان من الشمال، وفي أخرى يتنازع النفوذ فيها الفرنسيون أو النمساويون، وفي بداية القرن التاسع عشر كانت المعركة بين هاتين القوتين بتناقضاتهما الحادّة: فرنسا الثورية والإمبراطورية النمساوية المحافظة، الأولى مدفوعة بحماسة البرجوازية النشطة، والثانية تتقدّم بحسابات الأرستقراطية وهي تخوض معارك تعتبرها مسألة حياة أو موت. اتفق هذان المتناقضان ضمنياً أن تكون إيطاليا موقع صراع كبديل عن كل مواجهة مباشرة تكون تكاليفها باهظة في الجانبين.

تنطبق على إيطاليا في ذلك الزمن مقولة المستشار النمساوي ماتريخ: "ليست أكثر من تعبير جغرافي". ولقد كان هاجس المثقفين الإيطاليين خلال القرن التاسع عشر هو تحويل إيطاليا من "تعبير جغرافي" إلى واقع سياسي، لكن المسافة بين النقطتين كانت تقتضي ما هو أكثر من الحروب والتحالفات والتحركات السياسية في سبيل توحيد إيطاليا. فقبل توحيد الأرض كان ينبغي توحيد الشعب، وهنا يتجلّى الدور الذي لعبه فيردي.

نجح في بلورة فكرة إيطاليا ضمن المرئيّ والمسموع

في فصل بعنوان "غزوة ميلان"، في إشارة إلى الاحتلال النمساوي من جهة ومقدم فيردي إلى المدينة في 1932 ليبدأ مسيرته المظفّرة من جهة أخرى، يلفت فور إلى أن الفتى انتبه بشكل مبكّر إلى المعادلة التي ينبغي حلّها: تذويب الرسائل السياسية الاستنهاضية ضمن المتعة وضمن ما يحبّ أن يسمعه الناس، وأن يتمّ ذلك ضمن فنّ جماعي تصبّ فيه كل الفنون الأخرى. خيار الأوبرا بذلك ليس صدفة في حياة فيردي، إنه استعارة عن العمل الجماعي الذي تحتاجه إيطاليا لتحقّق ذاتها، ولذلك من السهل أن نتفطّن للوظائف الأخلاقية والاجتماعية والسياسية التي أدمجها فيردي صلب الأوبرا كما لم يفعل أحد قبله.

حين يضيء فور شبكة علاقات المؤلف الموسيقي الصاعد، يلمّح إلى "شيء غامض" كان ينادي بأن يظهر "فيردي"، أي الفنان الذي يُبلور روح إيطاليا المتشظية في منتج فنيّ واحد، أن يجسّد ذلك في المرئيّ والمسموع ويحرّر فكرة إيطاليا من دائرة النخبوي التي ظلّت تتحرّك فيها لعقود.

من اللافت أن فصلاً بعنوان "أن تصبح فيردي" يبدأ بمشهد حزين في حياة الموسيقي الشاب حين فقَد زوجته وهو في سن الخامسة والعشرين ودخل مرحلة من الكآبة اعتقد خلالها أن مسيرته الفنية قد انتهت. لكن ذلك لم يكن سوى إحدى معارك فيردي التي تحدّث عنها، هذه المرة معركته مع شكوكه في نفسه وفي كفاءته الإبداعية، وهي معركة حسمها بمزيد من التعمّق والتدرّب والتشذيب المستمرّ، وهذه العمليات هي التي خلقت أسطورة فيردي: إنتاج فنّ يملك مؤهلات الندّية مع الواقع. 

يعتبر فور أن هذه الندّية تجلّت في لحظتين؛ الأولى عام 1842 حين سرّب نشيداً للأمة الإيطالية المجروحة (Va pensiero)  في سياق أوبرا "نابوكو" كانت حبكتها لا تمتّ بصلة في الظاهر إلى أي شيء مما يدور في الواقع، بل إن فيردي عرَض العمل في فيينا ذاتها، وكأنه سَحر وقتها المحتلّ وجعله يلين دون أن يدري أمام غناء المقهورين. أما اللحظة الثانية، فهي ما يعرف بـ"ربيع الشعوب" (1848) وهي لحظة مفصلية في مسار توحيد إيطاليا، وحينها وجدت الأمّة ملحّناً في اكتماله، ليس  من خلال الموسيقى فحسب، بل لإشعاعه الثقافي والروحي في أوروبا بأسرها. فيردي كان لحظة شعرت إيطاليا فيها مجدّداً بمكانتها الرمزية.

يلاحظ فور أنه كان من الممكن أن يخبو وهج فيردي حين هدأت الموجة الثورية أو حين تعرّض مسار الوحدة إلى عوائق كثيرة، غير أن الموسيقار الإيطالي واصل إبداعاته بنفس الحماسة والاعتناء، وفي ذلك درس آخر من دروس سيرته، وتدليل أن مواجهته الأصلية كانت مع فنّه ونفسه. كان يؤمن أن "الخدمة" التي يقدّمها الفن ينبغي أن تقدّم باستمرار للشعب في فرحه وحزنه، في غضبه ورضاه. الفن بالنسبة إلى فيردي عليه أن يواجه الواقع كما هو، وأن يواجهه باستمرار.

في نهاية كتابه، يناقش فور سؤالاً غريباً: هل كان فيردي حقيقياً؟ وهو يشير هنا إلى تشكيكات كانت تعاصره، حيث إن سمعته والحكايات العجيبة التي كانت تروى عنه لم تكن تصدّق - خصوصاً في باريس - فاعتُبر شخصية مُؤسطرة، تعبّر عن نزعة التضخيم لدى الإيطاليين، وقد سرت مقولة بأنه من المحتمل أن تكون وراء أعماله شخصيات كثيرة اجتمعت تحت اسم واحد، وهو نفس التشكيك الذي عرفه شكسبير وثربانتس، غير أن فيردي - كما يشير فور - كانت لديه الفرصة أن يسافر إلى باريس ويثبت أن الأسطورة كانت حقيقية هذه المرة. كما يعلّق فور على رحيل فيردي في 1901 بشكل طريف بأنه اختار الرحيل على عتبة القرن الجديد وكأنه لا يريد التورّط في قرن غير قرنه.

فيردي

حكاية فيردي، بحسب فور، هي حكاية الصراع مع الفن قبل دخول صراعات مع العالم، معركة الأداة الذي يتيح الظفر بها مواجهة الواقع. حسمُ المعركة الأولى يتيح كسب نصف المعركة الثانية. بالنسبة إلى المؤلف، فإن فيردي انتصر في معاركه بمجرّد الظهور، كان فنّه من العمق والمتانة والتنوّع ما أتاح له تعديل موازين قوى حوله.

يضرب فيردي مثلاً في أن المقاومة من خلال الفن لا تعني بالضرورة مخاطبة العدو بشكل مباشر أو هجائه أو الدخول في حلقة متواصلة من الفعل ورد الفعل. المقاومة هي قبل كل شيء تأهيل ذاتي، ترتيب البيت الداخلي للصمود في وجه كل اعتداء، ترقية النفس إلى منطقة يختنق فيها العدو. عبقرية الفنان هو أن لديه القدرة على أن يضيف شيئاً للعالم في زمن قصير، له القدرة على إضفاء صفة الوجود على شيء لم يكن بعدُ، بما يغيّر معالم الخريطة التي يطمئنّ لها المنتصر فيجد نفسه دون سابق إنذار مجرّداً من أسلحة أمّنت انتصاراته السابقة. الغريب أن ذلك ينطوي على مفارقة كبرى: مواجهة الأكثر عنفاً (الاحتلال والقتل) بالأكثر هشاشة (الفن والبراءة).

الأرشيف
التحديثات الحية
المساهمون