فصلٌ جديد عنوانه الأمل

22 فبراير 2024
عرض للأطفال في مدرسة بغزّة حوّلها العدوان إلى ملجأ، شباط/ فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -

أطلتُ التأمّل في وجه طفل من شمال غزّة يتحدّث عن مأساة البحث عن الطعام والماء بشكل يومي. بدا لي وجهُه الشاحب وكأنّه مسافر في دهاليز هذا العالَم. والعالَم كلمة كبيرة ولا معنى لاستخدامها دون تحديد السياق، لكنّه بالمعنى السياسي البنيوي العامّ حقير. هل يجب أن أُخفي غضبي وأن أُحافظ على "العقلانية"، بينما عقلي وخيالي يتطايران أمام هول المشهد؟

هذا الطفل الوسيم، الذي لم يبدُ أنّه قد اعتاد على حالة يأس كهذه، بدا شامخاً وصابراً وكاظماً للغيظ. بدا لي وكأنّه جزءٌ من أسطورة لا أحد يعرف كيف يصفها، فعناوينها كثيرة وأبطالُها كثر ومَن يحاولون القضاء عليها أيضاً كثرٌ وأدواتهم مدمِّرة إلى أبعد الحدود.

غزّة بلا شكّ كلّها أسطورة نادرة، ويجب أن نأخذ كلمة الأسطورة هنا على محمل الجدّ.

قال الطفل في نهاية المحادثة مع المذيع الجائع مثله الذي كان يُجري المقابلة معه: "أقولّك الحقيقة، والله أنا جِعان وعطشان"، وردّ المُذيع: "وأنا كمان جعان وعطشان"، وذهب كلٌّ منهما ليبحث عن الطعام والماء. "يا حسرة"، تمتمتُ لنفسي وارتجفَت كلُّ أطرافي.

تجربة العالَم وهو ينزع عن نفسه صفة الإنسانية

بعد ساعتين تقريباً، أجرى راديو "BBC Five Live" مقابلة معي، وربّما على غير العادة كان صوت المذيع هادئاً، وبدا كأنّه مستمع جيّد. راودني شعورٌ بأنّه رجُل طيّب ويعرف الكثير عن الحقيقة، حقيقة فلسطين وحقيقة ما يجري ضدّ أهل غزّة، لكنّه جزء من بنية إعلامية وسياسية ظالمة وقاهرة وتشوّه الحقائق إلى أبعد الحدود، وكأنّه لا يستطيع أن ينجو منها ومن نفسه التي جُبلت داخل هذا النظام الظالم فكراً ولغة.

كان كلُّ سؤال يُحيّر أكثر ممّا سبقه: "كيف تشعر؟"، و"كيف تتعامل مع الغضب؟"، و"أكّدت وكالات الحكومة الأميركية أنّ حماس تستخدم المستشفيات والبشر كدروع بشرية، ألا تصدّقها؟"، و"ماذا تقول لمجتمعك، وكيف تحارب اللّاسامية؟"، كلّما سمعت سؤالاً كنت أتمتم لنفسي قبل محاولة الإجابة: "يا ربّ".

أنا لا أحبّ الدراما، وأتجنّب المظاهر العاطفية الجيّاشة. لكن ها هنا بنية عالمية أجد نفسي عاجزاً عن التفكير في مقاصدها، بعدما حلّ بأهل غزّة ما حلّ من موت ودمار. أعجز، وأمام العجز واليأس والغضب تعتصر الدموع، تسري في ربوع القلب، تحاصر أروقة الروح، أجد نفسي عارياً أمام نفسي، وكأنّ نفسي تعزّيني أو أعزّيها بالعالَم المذكور آنفاً، الذي يكشف نفسه مرّةً تلو الأُخرى بأنّه فاقد للضمير والإحساس والعقل، وكلّ ما يدلّ على أنّ الإنسانية ممكنة أمام مأساة غزّة.

وفي اليوم التالي، أقرأ أمام جمهور غربي قصيدةً للشاعر نجوان درويش، وكُلّي غضبٌ وحنق على منظّمي اللقاء. فلقد استمعنا للتوّ لشاعرة لم أدرِ أنّها ستكون هناك، شاعرة من الطرف الآخر، تعرّف نفسها على أنها "شاعرة من الشتات اليهودي". ولم تترك كذبة إسرائيلية رخيصة إلّا وردّدتها: "اغتصاب النساء"، و"تقطيع رؤوس الأطفال"، و"بنيامين نتانياهوووو". تمتمت لنفسي وربتّ على ظهرها وظاهرها: "إذا زلزلت الأرض زلزالها... وقال الإنسان مالها".

ثمّة حكمةٌ ما في أطفال غزّة لن يفهمها كثيرون خارجها

هل يُبرّئ هؤلاء ذمّتهم بدعوتنا لقراءة الشعر، بينما الإبادة ضدّ أهلنا مستمرّة؟ هل أُسيء الفهم، فهؤلاء يعبّرون عن تضامنهم وقلّة حيلتهم من خلال الشِّعر، قليل الحيلة، فهؤلاء أيضاً، نفوسهم مخضوضة ولغتهم مكبّلة بأغلال الحدث الجلل؟ هل أتمرّد أنا اللّامتمرّد على كلّ شيء وأرفض أن أكون في أيّ مكان، فـ"آوي إلى جبل يعصمني من الماء"، "ولا أكلّم اليوم إنسيّاً".

أمشي في شارعٍ يكثر فيه المارّة. نفسي مزدحمة بالمرارة، وصورة الطفل الجائع والعطشان لا تفارق مخيّلتي.

لعن الله العالم. لعنهُ ليل نهار.

أذهب لأُدرّس في اليوم التالي، وموضوع المحاضرة يدور حول الموسيقى العربية. أجاهد في سبيل الكلام. كأنّني لست نفسي. قلت للطلّاب: "لنستمع إلى أنماط موسيقية متعدّدة، غربية وعربية، ولنتعرّف على الفرْق بين الأصوات المذكورة من خلال الآلات الموسيقية المستخدَمة ولنتعلّم عن المقامات. نستمع قليلاً من 'سوناتا ضوء القمر'، وقليلاً من 'تقاسيم' بعزف مارسيل خليفة، لنرى تأثير الآلات على صوت المغنّي، ثمّ نستمع إلى موّال عراقي مدجّج بالحزن والألم".

خيالي لا يسعفني: هل أُخبر الطلّاب عن الطامّة التي تدور رحاها في داخلي؟ الخوف على الأهل؟ الفاجعة على دمار غزّة؟ رفح، رفح، رفح... حتى بايدن يتحدّث عن "رفه"! مدينتي الحزينة المحاصَرة بالموت والبحر والسماء المتفحّمة بالدخان، والمياه الملوّثة، ومشاهد الحشر وزحمة الطرقات، وخيام اللّاجئين الجُدد، وعربات الحمير وهي تشقّ طريقها وسط المارّة.

أتذكّرُ قصّة "نظرة" ليوسف إدريس. كم فتاة في مدينتي تحمل صينية خبز على رأسها، إن وجدَت خبزاً، وتنظر لأطفال وهُم يلعبون الكُرة بثياب رثّة. تلقي نظرة أخيرة عليهم ثمّ تختفي عند المنعطف الأخير في الطريق، إن شاءت الطائرات الإسرائيلية...

أتذكّر الطفل الجائع والعطشان. وأتذكّر الطفلة الصغيرة التي ينتابها الخجل، لأنّها طلبت ماءً وطعاماً وسالت دموعها وهي تطلب، وأتذكّر المرأة التي تَلمّ الأعشاب البرّية في شمال غزّة لتُطعم أطفالها، وأتذكّر وجه طفل أشقر آخَر وقد علاه التعب والإنهاك، ولكنّه يبتسم ابتسامة المجروح من كلّ العالَم أمام الكاميرا.

وأتذكّر الفتى "عبّود" (معكم عبّود من شمال غزّة)، وهو يصف معاناة الناس في البحث عن الطعام والماء بعد نفادهما، يُطلق النكات ويضحك رغم أنّ ملامح هذا الفتى العظيم قد شحبت، ويبتسم مرّة أُخرى في نهاية الفيديو فهو لا يسهب في الحديث.

وأتذكّر الطبيب الذي يذهب بعد يوم شاقّ في العمل ليبحث عن الماء، وقد أخفى قارورة الماء خلف ظهره عن الكاميرا خجلاً ممّا حلّ بهؤلاء الناس العظماء حقّاً. من يجب أن يخجل؟ بلا شكّ، العالَم، نحن، كلّ شخص خارج حدود غزّة، وليس هذا الطبيب وذاك الطفل وتلك البنت.

هنالك حكمةٌ ما في أطفال وأهل غزّة لن يفهمها الكثيرون خارج هذا الحيّز الأسطورة. هذه حكمة رؤية العالم بدون أيّ ألوان أو مساحيق تجميل، رؤية وتجربة العالَم وهو يظلمهم ويقهرهم بلا هوادة، وبلا رحمة، وهو ينزع عن نفسه صفة الإنسانية، أمام عيونهم المتعبة وأجسادهم المتهالكة ووجوههم التي سلّمت نفسها للأقدار العاصفة، ومع هذا يستمرّون، لعلَّ فصلاً جديداً عنوانُه التحرير والأمل يحلّ عليهم، ويخزي هذا العالم الأعوج الذي وُجدنا فيه ولم ننجُ من قسوته.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون