في كتابيها "رحلة جبلية، رحلة صعبة" (1985)، و"الرحلة الأصعب: سيرة ذاتية"، تتعدّد سرود فدوى طوقان التي تمر هذه الأيام ذكرى رحيلها العشرون، حيث تشكّل نابلس - مسقط رأسها - نقطة انطلاق أساسية في تناول مجتمعها، وطبيعة الحياة فيه، لتنفذ إلى عقلية المجتمع الذكوري وتأثيراته المباشرة عليها، وسعيها للتحرّر الشخصي والفكري.
كما تروي الشاعرة الفلسطينية (1917 - 2003) تفاصيل علاقتها بشقيقها الشاعر إبراهيم طوقان ودوره البارز في اطلاعها على الشعر العربي الجديث، ومؤلفات أدبية تراثية ومعاصرة، ومحاولاتها الأولى في نظم قصائد ذات مضامين وطنية على نهجه، ثم تأملها في الكتابة كمشروع شعري ستطوّره خلال لأكثر من نصف قرن.
ولا يغيب عن سيرتها توثيقها للذاكرة الفلسطينية في مواجهة الاستعمار والصهيونية. ففي "رحلة جبلية"، تكتب فدوى: "خريف عام 1935.. تشارين تهبّ رياحها على أحراش قرية يعبد في قضاء جنين. الأرض الحبلى بالأحداث ترهف السمع على انتظار وتوقع، الشيخ عز الدين القسّام يرفع يده العربية المؤمنة ويقوم بأول طرقة على باب الثورة، فلا يكاد يفعل، حتى تفتح له الأبدية أبوابها، ليدخل الشهيد العظيم، مع بعض رفاقه الآخرين، في رهط الشهداء الخالدين".
لا يغيب عن سيرتها توثيقها للذاكرة الفلسطينية في مواجهة الاستعمار والصهيونية
وتتابع: "النار التي قدحتها طرقة الشيخ الشهيد تعود فتنطلق شرارتها في نيسان/ أبريل عام 1936، بين الفئات الشعبية. يلتهب الفلاحون والعمال، تعلن يافا ويشمل الإضراب عمّال الميناء، تشتدّ الثورة الشعبية المتصاعدة، فتنعطف بمسيرة القيادات التقليدية عنوة واقتداراً، لتضعها في مواجهة مع الواقع المشتعل".
وتنتقل صاحبة المجموعة الشعرية "وحدي مع الأيام"، إلى الحديث عن إقامتها في منزل شقيقها أحمد بعمّان خلال الثورة، وتعليقها على سير الأحداث وتفاعلها معها، ثم عودتها إلى نابلس مع تأجج الثورة بظهور مشروع جديد لتقسيم فلسطين، ومقتل الحاكم الإنكليزي في الناصرة مع حارسه في أواخر أيلول/ 1937، لتنتفض الجماهير من جديد.
حكايات البطولة والحماسة ستثير مخيّلة الشاعرة وتكتب قصيدة "إلى أبي"، حيث تشير إلى أنها كانت حصيلة كل ما تجمّع في نفسها وتراكم من انفعالات منذ اشتعال الثورة عام 1936، موضّحة أنها لم تكتبت إلّا القليل من القصائد في حالة الفوران العاطفي، لتنشر القصيدة في مجلة "الرسالة" أوائل عام 1939، فنالت ثناء شقيقها إبراهيم وكذلك وإسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وآخرين.
مرة أخرى، يمتزج البعد الشخصي بالذاكرة الجمعية الفلسطينية مع حلول النكبة، حيث تكتب فدوى: "في ضجة السقوط، مات والدي عام 1948. آلاف اللاجئين يفيئون في نزوحهم إلى نابلس، فتكتظّ بهم الدور والمساجد والمدارس والكهوف في جبلي عيبال وجرزيم. مضت شهور طويلة على وقوع الفضيحة الأولى على الأرض العربية قبل أن أعود إلى كتابة الشعر، ولكن وراء الصمت كنت هناك عملية إرهاص واختزان كامنة في الأعماق، الأعماق التي لم تعد الآن تكابد الفراغ والخواء".
وتضيف: "وانفكّت في الأخير عقدة لساني. ورحت أكتب الشعر الوطني الذي طالما تمنى أبي لو يراني أتفرّغ له فأملأ مكان إبراهيم. لقد كتبتُ ذلك الشعر بصورة تلقائية، وبدون أي إلزام من الخارج".
في الكتاب نفسه، تتطرق فدوى الطوقان بعد ذلك إلى زياراتها إلى لندن والقاهرة ومعايشاتها في المدينتين وغيرهما من المدن الأوروبية والعربية، وصولاً إلى نكسة حزيران/ يونيو 1967، إذ تدوّن: "هبطت الفضيحة على الأرض العربية.. انهزمنا.. خسرنا الحرب.. أحزاننا لا تطاق.. الأعلام البيضاء تلعب بها الرياح على سطوح المنازل.. أصبحنا محتلَّين من قبل الجيش الإسرائيلي.. أخرجتني الصدمة عن حدود الواقع. حزينة أنا حتى الموت".
هزيمة جديدة تختم بها فدوى الجزء الأول من سيرتها، لينكسر بعد فترة طوق الصمت فتكتب خمس قصائد لتشعر ببعض الراحة. الكتابة ستظلّ أداتها الوحيدة لمقاومة الهزيمة وانكساراتها الشخصية كذلك.