"غودار، وحدها السينما": حياةٌ تتغذّى على الفنّ والتناقضات

11 يونيو 2023
جان لوك غودار خلال "مهرجان كانّ" السينمائي، 1990 (Getty)
+ الخط -

"اسم جان لوك غودار لا يرتبط بأفلامه فحسب، بل يتماهى مع السينما نفسها". لا يبالغ سيريل لوتي حين يفتتح بهذه الكلمات فيلمه الوثائقي "غودار: وحدها السينما" (140 دقيقة، 2022)، الذي تبثّه هذه الأيّام قناة "آرتيه" الثقافية الفرنسية الألمانية. فالفنّ السينمائي، في لحظةٍ ما (وربما للحظة طويلة من تاريخه) "هو جان لوك غودار"، كما سبق للشاعر لويس أراغون أن كتب في مقالةٍ له عام 1965.

يقول لوتي وأراغون كلامهما هذا عن المُخرج السويسري الفرنسي، الذي غادر عالمنا العام الماضي (1930 ــ 2022)، لأن تجربته كانت لحظة مفصلية في تاريخ السينما وتطوُّرها، ولأن الحداثة السينمائية اقترنت أيضاً بعددٍ من أعماله التي قد تبدو عناوينُها معروفةً حتى لدى مَن لم يشاهدوها، كما لو كانت جزءاً من الثقافة العامة: "أنفاس مخطوفة" (1960)، و"الازدراء" (1963)، و"بييرو المجنون" (1965)، ولاحقاً "أنقذْ ما استطعت إنقاذه: الحياة" (1980)، و"وداع اللغة" (2014)، و"كتاب الصورة" (2018).

هذه الإضافة الكبيرة إلى تاريخ السينما حوّلت غودار إلى أسطورة، كما يقول سيريل لوتي، الذي يسعى في عمله هذا إلى تقديم بورتريه للرجل يُخرجه من هذا البُعد الأسطوريّ. ومن أجل القيام بذلك، يستند المُخرج إلى مصدرَين: مقابلات مع شخصيات عرفت غودار عن قُرب، إنْ كان لعملها معه، وخصوصاً في التمثيل، أو لتأليفها كتباً عنه وعن تاريخ السينما؛ أمّا المصدر الثاني، فأرشيفٌ واسع من لقاءات معه، ومن أشرطة توثّق تصويره وإدارته للممثّلين، إلى جانب لقاءات قديمة مع أفراد مع عائلته، ولا سيما والده، بول، وأخته فيرونيك، إلى جانب زوجته ونجمة أفلامه لسنوات، آنا كارينا.

لطالما أردتُ الشيئين في الآن نفسه: أن يعرفني الناس وأن ينسوني

يتتبّع الشريط مختلف المراحل البارزة في سيرة غودار، وهو يأتي بما ليس معروفاً تماماً عنه، مثل تعتيمه على طفولته وسنواته الأُولى (كرفضه إعطاء صور عن تلك المرحلة لمَن يطلبونها منه) إلى حدّ أن أحد كتّاب سيرته سيتساءل في الفيلم إنْ كان لطفولة غودار وجودٌ أساساً، ومثل قطيعته مع عائلته في شبابه ورفضه لقيَمها، ما كلّفه أنّ أهله منعوه من حضور جنازة والدته التي رحلت بينما كان في الرابعة والعشرين.

كما يحاول الفيلم، بالاستناد إلى شهادات أو تحليلات المشاركين فيه، فهْمَ الفترة التي مال فيها المخرج الراحل إلى الثورة الثقافية الصينية والفكر الماوي، والتي جاءت لتمنح إطاراً ــ مفاجئاً لشخص مثله يحذر من السرديات الكُبرى والشعبوية ــ لكُرهه لكلّ ما هو برجوازي ومتعالٍ في أوروبا الغربية التي رفض قيَمها منذ صغره، وهو ما سيتبلور في فيلمَيه "الصينية" و"عطلة نهاية الأسبوع"، اللذين أنجزهما عام 1967.

على أنّ أكثر ما يلفتنا في الشريط هو الحديث عن غودار السينمائي، لا الرجل. هنا، سنلتقط حديث المخرج والناقد تييري جوس عن أنّ موضوعات غودار في أفلامه ليست حبكاتها والقصص التي ترويها، بل موضوعه الدائم هو السينما، باعتبار أنّ أفلامه بحثٌ متواصل حول السينما ومن خلالها. مقولةٌ سيؤكّد عليها الناقد دافيد فارولت حينما يسأله المخرج أن يحكي قصّة أحد أفلام غودار ("عطلة نهاية الأسبوع")، فيبتسم قائلاً إننا لا نقول الكثير حينما نخبر قصة واحد من أفلامه، لأن جوهر الفيلم يكمن في مكان آخر؛ في ما يفعله فنّياً وتقنياً، وفي ما يجدّد فيه عَبْر إدارة الفنّيين أو الممثلّين، أو عبر الحوارات التي يقولونها.

هذه الحوارات، تتذكّر الممثّلة مارينا فلادي (التي عملت معه في فيلم "أمرٌ أو أمران ممّا أعرفه عنها"، 1967) أن غودار كان في بعض الأحيان يتجنّب إعطاءها للممثّلين، وكان يلقّنهم إيّاها مباشرة خلال التصوير عبر سمّاعة صغيرة كانت توضع في آذانهم، ليتجنّب المبالغة في التحضير التي من المُمكن أن تزيّف ما يريد إيصاله للمشاهدين. لكنّها في الآن نفسه تجربة قاسية للممثّلين ــ كما تقول فلادي ــ الذين يبدون كذاهبين إلى موعد لا يعرفون مكانه أو زمانه.

قسوةٌ ترافقت في حياة المُخرج السويسري الفرنسي مع رقّته، تماماً كما تشكّلت حياته من العديد من الثنائيات الأُخرى: بحثه عن التناغم والنظام في الفوضى، ومراوحته بين التحضير لكلّ تفصيل في أفلامه ورغبته في نسف كل شيء والعمل وفقاً لارتجالٍ كامل، أو في مسعاه طيلة حياته إلى أمرين متناقضين، كما يقول: "لطالما أردتُ الشيئين في الوقت نفسه: أن يعرفني الناس، وأن ينسوني".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون