استمع إلى الملخص
- **تاريخ ودلالات غطاء الرأس**: يشرح الكتاب تاريخ غطاء الرأس ودلالاته، موضحًا كيف تطور من حاجة بيئية إلى رمز ثقافي واجتماعي يعبر عن الهوية والانتماء.
- **غطاء الرأس والسلطة والثورات**: يناقش الكتاب دور غطاء الرأس كرمز للسلطة وأداة للتمييز الثقافي، ودوره في الثورات والحركات التحررية، وكيف أصبح جزءًا من الموضة والتجارة.
"الدراسات الثقافية عالمٌ واسع لأنّه يتغلغلُ في كلِّ مفاصل الحياة التي تتدخل فيها الثقافة وتُؤثر، كالأدب وتفرعاته وما ينبني عليه من نقد، والفنون المعماريّة وتجلياتها، والأزياء والموضة، وتفنن المجتمعات في طبخ طعامها وطريقة تناوله..."، بهذا المدخل الذي نقرأه في مقدمة كتاب "غطاء الرأس في الثقافة العراقيّة في العصر الحديث (الأنساق، الفضاء، التحولات)"، الصادر حديثًا في 128 صفحة عن دار الشؤون الثقافيّة في بغداد، للأكاديمي العراقي عبد العظيم السلطاني (1964)، نفهم أنَّ موضوعة الكتاب تدخل في مضمار الدراسات الثقافيّة التي من شأنها إيقاظ الوعي النقديّ، ولفت النظر إلى أبعاد الممارسات والمعتقدات والأفكار التي تشكّل النسق الثقافيّ العام في مكانٍ معيّن.
السلطاني، الذي يشغل منصب أستاذ النقد الحديث في كلية التربية للعلوم الإنسانية بجامعة بابل، وزَّع كتابه على ثمانية أجزاء، أو فصول، رغم أنَّه اكتفى بالعناوين الرئيسية من دون ذكر كلمة "فصل"، ابتداءً بالمقدمة التي استعرض فيها أهمية الدراسات الثقافيّة كونها تعدُّ عالمًا مركبًّا من المنهجيات البحثيّة، وخلاصات معرفية لحقول عديدة، فهي لا تقتصر على جانبٍ معرفيّ واحد، بل تتعدد المعارف فيها لكي تدرس الظواهر الثقافية والاجتماعية من خلال تفكيكها وبنائها، لاستيعابها بشكلٍ علميّ صائب.
إلى جانب هذا، يقدّم الكاتب تعريفًا لمفهوم غطاء الرأس وماذا يعني به، إذ نفهم أنَّ الغطاء يشتمل على كلِّ ما يوضع على رأس الرجل، مع اختلاف التسميات، "غترة"، "شماغ"، "عقال"، وغيرها من الأشكال التي تستخدم في مناسبات ومواضع مختلفة، إضافةً للغطاء الذي تستخدمه المرأة، سواء بشكلٍ مستمر "بحسب الفرض الديني"، أو في مناسبات معينة، وهذا قد لا يحتاج إلى تعريف، غير أنه ضروريّ لفهم موضوع الدراسة وعلامَ تشتمل، فالاستعراض الذي نقرأه في المقدمة لغطاء الرأس وتاريخه، يتيح للقارئ تكوين فهم عام مسبق لما سيتحدث عنه الكتاب في ما سيأتي.
صارَ غطاء الرأس علامة سيميائيّة دالة على أمرٍ ثقافي معيّن
من خلال الفصول الثمانية للكتاب: "مشهد تنوّع الغطاء"، "اللغة وغطاء الرأس"، "الاقتضاء والهوية"، "غطاء الرأس والسلطة"، "غطاء الرأس وفاعلية الخطاب"، "الداخل والخارج"، "التحول وتعدد الدوافع"، "انتصار العلامة لذاتها"، ترتسم أمامنا الخريطة الكاملة لرحلة الغطاء، ابتداءً من وجوده ومن ثمَّ ضرورته وتاريخ تطوره وعلاقته الوثيقة بالمحيط الذي يُعرف فيه.
تظهر الأبعاد التي اكتسبها غطاء الرأس على مرّ الزمان، والتي أصبحت في ما بعد لازمًا من لوازم المجتمعِ وثقافته وانتمائه. وبهذا، فإنَّ دوره، في العصر الحديث (حيث الموضة والتخلص من كلّ ما هو قديم ولا يؤدي الحاجة)، تجاوز دوره السابق، صار له حضوره الخاص، علامته المهيمنة، وسلطته الحاضرة.
لغطاء الرأس في الثقافة العراقيّة وحتّى العربيّة دلالات عديدة تختلف بحسب الرقعة الجغرافية، وتختلف من حيث الشكل والطريقة حسب الفترات الزمنية التي تتطوّر فيها الحاجة إليه. فيَذكُر السلطاني أنَّ الحاجة الشخصيّة لوجود الغطاء فرضتها طبيعة البيئة والظروف المناخيّة التي كان يعيشها الإنسان العربيّ في حلّه وترحاله، فالحرارة العالية صيفًا والبرودة شتاءً وما بينهما من عواصف رمليّة وقساوة صحراويّة من شأنها أن تؤدي إلى أضرارٍ صحيّة للرأس والوجهِ، هذا ينطبق كذلك على المرأة التي بدورها حرصت على هذه الحماية التي تحتاجها أكثر من الرجل لغاياتٍ صحيّةٍ وجماليّةٍ أيضًا. وبما أنَّ الحاجة إليه فرضتها الظروف المكانيّة، فماذا لو زالت هذه الحاجة مع التطوّر الحاصل بطرق الحماية من العوامل المناخيّة وتغيّر المكان من حيث المسكن والتنقّل وحتى المشي؟
دخل الغطاء في الحيّز الثقافي حين صار يَحملُ معاني مختلفة ويُعبّر عن جماعاتٍ شتّى، فصار يُميّز به من يسكن في الشمال أو الغرب أو الجنوب، لأنَّ لكلِّ منطقةٍ طريقتها المعيّنة في اللبس، وبه يُعرف المرءُ إذا وضعه بطريقة جماعةٍ ما، ويُحسب منها، فهو هنا لا يؤدي وظيفته الأصليّة بقدر ما يؤدي وظيفة علاماتيّة يتميّز بها صاحبها عن الآخرين ولا يشبههم، وهو هنا تحوّل من حاجةٍ إلى هويّة فخطابٍ ثقافيّ. في هذا الموضع يستحضر الكاتب رولان بارت وما أورده من "التمييز بين الزهور بوصفها دلالة مستقلّة حياديّة، والزهور المُهداة بوصفها علامة. فهي في الحالة الثانية صارت علامة حين ارتبطت بمشاعر المُهدي، فأصبحت ممتلئة برسالة، في حين كانت الزهور فارغة من الرسالة قبل اتِّحادها بالمشاعر. والأمر نفسه ينطبق على غطاء الرأس، حين كان في طوره الأول تعبيرًا عن حالة اقتضاء تستدعيه طبيعة الحياة والظروف البيئية، فكان دالًا على المعنى الأولي، وهو: إنَّ إنسانًا يضع غطاءً على رأسه هو بحاجة إليه. وحين حمّل هذا الغطاء بمعنى ثقافي في وقت لاحقٍ، صارَ علامة سيميائيّة دالة على أمرٍ ثقافي معيّن".
تتجاوز وظيفة غطاء الرأس كونها علامةً لتشكّل علاقةً بالسلطة حينًا، ثمَّ ليكون غطاء الرأس هو السلطة في أحيانٍ أُخرى. وبحسب السلطاني، فإنَّ علاقته تظهر حين يكون مُستخدمًا من قبل السلطة التي توظِّفه لتتميّز به وتُعلن عبره ضِمنًا عن هويَّتها الثقافيّة المختلفة، وهذا ما لا يحقق التوازن في مجتمعٍ يُقاد من قبل هذه السلطة، لأنها بهِ تنحازُ للجماعة التي تنتمي إليها، لا المجموع الذي ينبغي أنَّها تمثّله. وفي حين يكون الغطاء هو السلطة نفسها، حيث يصبحُ مؤثِّرًا ويمارس فعلًا في الدائرة الثقافيّة التي يسودُ فيها، كأن يُمارس رجلُ الدين سلطته التأثيريّة عبر ما يضعه على رأسه، وشيخ القبيلة وما يفرضه على جماعته برمزيّة "الشماغ" و"العقال" الذي يمثّل السلطة بالنسبة للآخرين.
لا تنفكُّ العلاقة بين الأغطية والثورات والحركات التحرريّة التي شهدتها الساحة العراقيّة وحتّى العربيّة، فلطالما كانت أيقونةً معبَّرةً عن التحرر من الهيمنة والإشارة من خلالها إلى تبني الفكر النضالي والثوري، وهو ما نجده في الكوفية العراقيّة والفلسطينية مثالًا، والتي تعد نسقًا ثقافيًا له دلالاته في الحرب والسلم. في الساحة الثقافية ما زالت الكوفيّة تقوم بهذا الدور، إذ تتغيّر علامتها حين تُزال عن الرأس (الاستخدام الطبيعي لها)، لِتُلفَّ على الرقبة، العلامة الدالة على فكر صاحبها وموقفه واستعداده.
تجاريًّا، صارت أغطية الرأس وملحقاتها من المُكمِّلات الجمالية التي تندرج ضمن مفهوم "الموضة". وعلى الرغم من أنَّها لم تخضع لتحسيناتٍ أو تغييراتٍ معيّنة، إلا أنَّها ظلّت حاضرة لتكون العلامة المختلفة عمّا يُدرج الآن من ملبس، ولتكون ملفتة جماليًا لمن يرتديها.
حقل العلامات الثقافية تقل فيه الدراسات ولا سِيما عراقياً
اقتصار الكتاب على موضوعٍ واحد، هو غطاء الرأس، يجعلنا ندور في فلك فكرةٍ واحدةٍ رغم تنوّعها، فلا نكتشف عبره أكثر من معرفة الدلالات والعلامات التي يؤديها الغطاء، وغرضه الثقافي والهوياتي عند من يرتديه، إضافةً إلى سلطته التي يفرضها، بحسب ما يعبر عنه من سلطة، سواء كانت سياسية أم اجتماعية أو دينية.
إن هذا الحقل الثقافي، حقل العلامات، تقل فيه الدراسات، وتحديدًا في العراق، ورغم أنه يتعلق بالأزياء بالدرجة الأولى، ويقتصر على جانبٍ منها، إلا أنّه يمكن أن يُؤخذ كمنظارٍ نرى عبره كلّ ما يمكن أن يقع نظرنا عليه، ونخضعه لأساليب التحليل ومَدَيات الرؤية التي استند إليها الباحث في كتابه هذا.
* كاتب من العراق