ليس جديداً أن نرى حكومات العالَم والبلدان الكُبرى، وأجهزة صُنع القرار، لا تكترث كثيراً بمطالب الشعوب وتحرّكات الشارع حين يتعلّق الأمر بمصالح إستراتيجية وبلعبة القوّة على هذا الكوكب. ولكن مع الحرب على غزّة وسكّانها وبُنية مجتمعها وإمكانات الحياة فيها، تأخذ مفاجأة البعض أمام الهوّة الواسعة بين الشعوب ومراكز صنع القرار، دفعة قوية وبُعداً مختلفاً، كوننا نتعامل، هنا، مع جرائم إبادة جماعية يُرتكب الكثير منها على الهواء مباشرةً.
ولكن الشعور بالمفاجأة لعدم وجود جسر يردم الهوّة الكُبرى بين الطرفين، يتضمّن سوء فهم لطبيعة السُّلطة وقوّتها ولطبيعة مبدأ حرّية التعبير؛ فحرّية التعبير أوّلاً أمرٌ لا يضمن فاعلية هذا التعبير وأخذه على محمل الجدّ من قِبَل السلطة، وهي أيضاً منفصلة عن حرّية العمل لتغيير شكل السلطة وتقويض هرمية القوّة في مجتمع معيّن. ولهذا فحرّية التعبير بوصفها أساساً من أساسات الديمقراطية، تحتلّ، بحسب الفيلسوفة الفرنسية سيمون فاي، موقعاً في حيّز "القيم الوسطى" التي يُمكن أن ننسبها إلى عالم الطبقة البرجوازية في مجتمع معيّن، وهي بذلك تتعلّق بشؤون حياة هذه الطبقة وحدها ضمن مجتمع ما، ولا تتعدّاها إلّا بشكل هامشي.
تجاهُلٌ تامّ في الغرب لمطالب الشعوب بوقف العدوان
ولذلك نجد أنّ فاي تنفي حتى فائدة حرية كهذه في التعبير عن المآسي الملمّة بالطبقات المسحوقة والكادحة في المجتمع، أوّلاً لأنها لا تعبّر ولا تستطيع أن تعبّر بدقّة عن صُلب التناقض في حياة هذه الطبقة، وطبيعة علاقة العمّال الكادحين بعملهم، وثانياً لأنّنا نقف أمام معضلة تتمثّل في أنّ من يمتلك قوّة الكلمة وفصاحتها لا ينتمي إلى عالم المسحوقين، ولم يختبر بالضبط عُمق الأسى هناك، بينما من يعرف عُمق الأسى والبؤس لا يمتلك الكلمة أصلاً، أو قدرة التعبير لكي يتمتّع بهذه الحريّة.
وهذا يعني، أيضاً، أنّ الاستفادة من إمكانيات حرية التعبير تفترض مُسبقاً في أغلب الأحيان وجود امتيازات معيّنة، وليس العكس، أي أنّ المطالب الكبرى الأكثر جذرية لا تأتي لصاحب المطلب بالامتياز أو الهِبة، بل العكس هو الصحيح: الامتياز الموجود أوّلاً هو الذي من المرجَّح أن يحقِّق لصاحبه شيئاً ما. ومن هنا يصبح بديهياً أنّ القويّ يزداد قوّة والضعيف يزداد ضعفاً، أو كما يقال في لغة السوق وعالم الأعمال: المال يأتي بالمال، والفقير يزداد فقراً. أمّا الاستثناءات فلا قيمة لها لكي نذكرها.
ومن ناحية أُخرى، فإنّ طبيعة السلطة، بما هي مجموعة من المؤسّسات العُليا المتداخلة التي تكوّن كياناً جَمعياً، تفترض في تكوينها أنّها لا يُمكن أن تراعي قداسة الحياة البشرية كما ينبغي. ولذلك لا مكان واقعياً للمفاجأة أمام حقيقة أنّ مراكز النفوذ وقوى السلطة غير معنيّة بالاستماع لمطالب الشعوب أو الأفراد الأكثر جذرية ومساساً بحياتهم ووجودهم؛ فالأكثر جذرية هو الأكثر تعلّقاً بعُمق الوجود البشري، وهو ما يمكن أن نطلق عليها صفة الروحانية، أي ما يتعلّق بصُلب وجود الإنسان ومعنى حياته. فالسُّلطة مؤسَّسة على خدمة مجال آخر من مجالات الحياة.
الدولة الليبرالية مُصمّمة لخدمة نفسها فقط
والحديث، هنا، ليس فقط عن الكيان المُسمّى "الدولة" بل أيضاً عن كلّ هيئة جَمعيّة، بما يشمل سلطة الجماهير نفسها في أحزاب أو أجسام وطوائف دينية... إلخ؛ فلا الدولة معنيّة بقداسة الحياة الإنسانية والقيم الوجودية الكبرى، ولا الجماهير نفسها كذلك إلّا بمقدار معيّن سنحاول تبيينه أدناه. وهذا ما تشرحه سيمون فاي في مقالها "الشخصية البشرية".
تكتب: "من العبثيّ أن نشرح لكيان جمعيّ أنه يوجد شيء ما لا ينبغي انتهاكه ضمن كلّ من الوحدات (الأفراد) المكوّنة له... فالكيان الجمعي ليس شخصاً ما، إلّا بصورة مجازية. وهو لا يمتلك إلّا وجوداً مُجرّداً، ولا يمكن مخاطبته إلّا بصورة خيالية. علاوةً على ذلك، فإنّه لو كان (هذا الكيان الجمعيّ) شخصاً معيّناً فسيكون شخصاً غير مطبوعٍ على احترام أيّ شيء عدا نفسه".
هذه الملاحظة الأخيرة هي ما يهمّنا هنا: السلطة بوصفها كياناً جمعياً أوّلاً، سواء تجلّت في دولة أو في هيئة اجتماعية معيّنة أو جمهور ما، هي بالتعريف غير مهيّئة لمراعاة مصالح أيّ كيان عدا نفسها، وهي، مع كلّ الخدمات التي يُمكن أن تقدّمها مادّياً أو معنوياً للأشخاص، لا تفعل هذا إلّا بالمقدار الذي يضمن ديمومتها واستمراريتها هي بالتحديد. بعد هذا الحدّ تنتهي مهمّتها، بل وقد تبدأ بالانقلاب على كلّ ما عداها.
ولذلك، فحتى الدولة الليبرالية الديمقراطية الحديثة، هي أيضاً، مُصمَّمة بحيث تخدم نفسها أوّلاً وأخيراً، وكلّ ما تقوم به بشكل واعٍ أو غير واعٍ مهيَّأٌ ومصمّم وفق حلقة تغذية عكسية لكي يضمن لها ديمومة القوّة واستمرار التضخّم (ولو أنّ هذه الاستمرارية غير ممكنة بحسب قوانين التاريخ). ومن السذاجة بمكان الاعتقاد بأنّ الكيانات الكبرى، جماهيرية كانت أم مؤسّساتية رسمية، يُمكن أن تفعل غير هذا. وإذا كان من المعتاد عند البعض وضع القيم الموضوعية والمثل العليا (على عكس القيم الذاتية) في صفّ المؤسسات والمجموعات البشرية الكبرى وليس في صف الأفراد، فإنّ فاي تجعلها أبعد ما تكون عنها، بل إنّها تزيّفها عبر صورة شبيهة ومضلّلة.
من ناحية عملية، هذه المعرفة لا تعني في أيّ حال من الأحوال التوقّف عن الكفاح والنضال والمُطالبة بكلّ الأشكال المُمكنة، ولكن جهل طبيعة السلطة بوصفها كياناً خادماّ لذاته أخيراً، يوفّر لهذه السلطة رصيداً كبيراً من المثقّفين السذّج الذين يعتقدون أنّ الدفاع عن القيم العليا والديمقراطية وحرية التعبير يكون بالدفاع (غير المشروط في كثير من الأحيان) عن سُلُطات "حضارية" ومراكز قوّة وأجسام اجتماعية وجمعية عملاقة تتشدّق بالقيم، وترفعها كشعارات كبرى، بينما هي بالفعل أجسام مطبوعة في صلب تكوينها على تغذية نفسها فقط، ولا يُمكن أن تدعم القيم الكبرى والمُثُل العليا إلّا وفق حسابات شديدة الدقّة.
* شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد