"غزّة أمام التاريخ" لإنزو ترافيرسو: السردية الصهيونية وأكاذيبها

14 اغسطس 2024
+ الخط -

هل تدمير غزّة هو نتيجة لهجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أم أنّه جزء من عملية طويلة من القمع والاستئصال والإبادة والاحتلال؟ هل يحقُّ للشعب الفلسطيني مقاومة الاحتلال؟ وهل الحديث عن الإبادة الجماعية هو معاداة للسامية؟ 
في كتابه الصادر مؤخراً عن دار نشر "لا تيرزا"، بعنوان "غزّة أمام التاريخ"، يحاول المفكّر الإيطالي إنزو ترافيرسو Enzo Traverso تقديم أجوبة مختلفة عن تلك التي المهيمنة في الغرب؛ حيث توصف "إسرائيل" بأنّها جزيرة "الديمقراطية"، وحماس بأنّها "جيش وحشي من سكّان الرمال".

يقدّم المفكر الإيطالي نصاً سياسياً موجزاً يتناول فيه كيفية بناء مواقف الجلادين والضحايا. نقطة البداية عنده هي المشهد المتناقض المتمثّل في أنَّ "إسرائيل"، بينما تدمّر غزّة وتمارس إبادة جماعية فيها، تقدّم نفسها ضحية "لأكبر مذبحة في التاريخ منذ المحرقة". وبما أنَّ المحرقة هي مرجع دائم للإسرائيليّين، فإن ترافيرسو يأخذ بعض المقارنات بالحرب العالمية الثانية ويتحدّث عن "نوع من محاكمات نورمبرغ العكسية" حيث لا يتمّ الحكم على الجرائم التي ارتكبها النازيون، بل على الفظائع التي ارتكبها الحلفاء. وبهذا المعنى، يعيد إلى الأذهان الجدل الألماني حول الماضي الهتلري، حيث عرّف المؤرخ المحافظ إرنست نولت الجرائم النازية بأنها "رد فعل" على تهديد البلشفية، ومن ثم كان الضحايا هم الألمان، وليس اليهود. وبعد عرض هذا التشابه، يشير ترافيرسو إلى أنه لتبرير جرائمه، يقوم الاستعمار الصهيوني بالدعاية بأن الضحايا هم الإسرائيليون، وليس الشعب الفلسطيني. 

وفي مواجهة هذا التحريف والانقلاب لموقف الضحية والجاني، يتبنّى المفكر الإيطالي تعريف الإبادة الجماعية الذي حدّدته اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، لتحديد ما يحدث في قطاع غزّة، حيث لا يتعلّق الأمر عنده بحرب بين جيشين، بل إنّه تدمير أحادي الاتجاه، مستمر ولا يرحم، ويهدف بمنهجية إلى القضاء على مجموعة من المراكز الحضرية التي يسكنها ما يقرب من مليوني إنسان فلسطين. إنّه منطق الإبادة الجماعية، وهو ما يقوم به جيش يملك آلة حرب وتكنولوجيا متقدّمة جداً.

يكشف مفارقة دعم الغرب لإبادة جماعية باسم مهمته الحضارية

وبعد ذلك، يتطرّق المؤلّف إلى آليات بناء الخطاب الذي يصدّر "إسرائيل" على أنّها "جزيرة ديمقراطية وسط محيط ظلامي من العالم العربي". هذا الخطاب السائد في الغرب، والذي تتبناه مؤسّسات السياسة والإعلام الغربيين يعود إلى القرن التاسع عشر، عندما ارتكب الغرب عمليات إبادة جماعية استعمارية باسم مهمته الحضارية، وحتى الآن لا يزال يقوم على افتراضات أساسية هي: "الحضارة" في مواجهة "الهمجية"، و"التقدم" في مواجهة "التخلف". 

كذلك، يقوم هذا الخطاب الإعلامي والسياسي اليوم بربط ذكرى المحرقة تدريجياً بالدفاع عن "إسرائيل" والنضال ضد معاداة الصهيونية. أمّا الدعاية الصهيونية القائمة والمنتشرة فقد استطاعت أن تختزل التاريخ إلى صفحة بيضاء فكأن "كل شيء قد بدأ في 7 أكتوبر وليس باحتلال الأراضي الفلسطينية والتطهير العرقي منذ عام 1948. وفي الوقت نفسه تقول هذه الدعاية بإخفاء التخريب الصهيوني المستمر لأي اتفاق أو بديل غير المفروض من قبل "إسرائيل".

وبعد هذا يتطرق الكاتب بتوسع إلى موضوع معاداة السامية. فبينما تقتل آلة الحرب المدنيين الأبرياء، يصف سلاح الإعلام والسياسة كل ما من شأنه انتقاد "إسرائيل" بأنه "معاد للسامية"، مشيراً إلى أنه اتهام خطير بقدر ما هو كاذب، ولا سيّما أن العديد من الطلاب والأساتذة اليهود، وحتّى طلاب إسرائيليين، شاركوا في مظاهرات في مختلف بلدان العالم ضد المذبحة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وصولاً إلى نتيجة أن "معاداة السامية أصبحت سلاحاً" لـ "تجريم انتقاد إسرائيل".

يشكّل كتاب "غزة أمام التاريخ"، نداءً قوياً ضد الأعمال الإجرامية التي تقوم بها "إسرائيل"، والتي تدعمها الدول الإمبريالية سياسياً ومادياً، ولا سيّما أن مؤلفه هو مفكّر إيطالي شهير متخصص في مسألة اليهوديات والهولوكوست.

المساهمون